قليلة هي المرات التي ضبطت فيها روحي تجهش بالبكاء. كنت أغلقت التلفزيون بحدة، كان المشهد لجسد امرأة عربية حولته القذيفة الى أشلاء ملتصقة بالجدار. تلطخت الأرض بالدم، واكتسى الجو بغبرة الدخان. الطفل الذي جاء عدواً تسمر أمام مشهد الأشلاء، وحين لم يستطع مواصلة الوقوف خطا ناحية الرصيف وجلس يباشر وينظر بفزع ناحية ما تبقى. هل كان الجسد لأمه؟ أم لتلك الجارة التي تتوجه كل صباح ناحية البستان؟ وهل كنت أقاوم ما ينبثق من القلب من جروح، وذلك الصوت البعيد ينبعث صداه مثل السقوط في هاوية؟ "ما الذي يحدث ولا نفهمه؟". سرت داخل الشقة أتأمل الصور على الحائط، وصوت غناء يصعد من الراديو يمجد القدس، وأنا أقاوم إحساسي بتلك الهزائم التي تتواتر مثل الفصول عبر الأزمنة، وكم من السنين ستمضي حتى يتخلص الناس من ذلك الموت الذي يسكن الحياة؟ كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، والشمس تفرش أرض الشرفة، والشارع يزدحم بالسيارات، ونداءات الباعة، وبجانب السور تجلس عجوز مسنة تمد يدها للعابرين. كنت في الصباح تلقيت دعوة ابراهيم لحضور اضراب عن الطعام في نقابة المحامين، قال: "بسبب ما يحدث". "هنا ولا هناك"؟ "هنا وهناك... ميعادنا 12 في النقابة". وضع السماعة، ومضى. نقابة المحامين بناء ليبرالي قديم، يقع على تقاطع شارعي رمسيس وعبد الخالق ثروت، طرازه كلاسيكي يعكس مهابة أول القرن الماضي، واجهته الخارجية افترشتها اللافتات بشعاراتها المجلجلة، تسقط اميركا وإسرائيل... بالروح بالدم نفديك يا فلسطين... يسقط العملاء واللصوص. زحمة من شرطة ومخبرين، والنهار خريفي، وعربات بالشارع. قبل أن أتجاوز الباب اعترضني الشرطي: "على فين؟". "داخل". "تلاقيك رايح الإضراب... شكلك كده". "آه رايح الإضراب". "طيب يا سيدي اتفضل اضرب". شيعني بنظرة فلاح لا حول له ولا قوة، ثم سمعته يلعن سنسفيل الأيام السوداء التي وضعته في تلك الظروف. اجتزت الحديقة المزروعة بأشجار التوت والفيكس، وقطعت المساحة بين المبنى والحديقة الخالية من العشب، رأيت المحامين يجلسون في طرفها على طاولات من البلاستيك مرتدين أروابهم السوداء، يتحدثون الى موكليهم بصوت عالٍ، ويحتسون الشاي، ثم يتأملون الإخوة المضربين في الجانب الشرقي من الحديقة بجانب جدار المسجد الصغير. أسراب من بشر ينسلون من بين جانبي، يحملون أوراقهم بينما تنطوي وجوههم على حزن أصيل، أصبح علامة تميز وجوه المصريين. أسير واضعاً يدي في جيب سروالي، لا أستطيع مفارقة منظر الموت على الشاشة، وذلك الإحساس يغمرني، هو الموت، ذلك الألم الأخير. "أهلاً"قالها علي، ونهض مسلماً، ألقيت التحية، وسحبت كرسياً وجلست. كان منتصف النهار معتدل الهواء في هذا الوقت من زمن الخريف، وكنت أراهم يدخنون بشراهة، ويقرأون من أوراق في أيديهم... همس علي في أذني ببعض الكلمات وافقته عليها، نهضت وتوجهت ناحية المسجد، كانوا عشرة قد باشروا الاضراب عن الطعام، ألقيت عليهم التحية وعدت حيث الجمع، قال لي عليّ: المسألة لم تعد موت شخص او جماعة، المسألة اختبار للوجود كله، فاهم، فاهمني، أشار الى صدره بإصبعه، وأضاف بصوته المبحوح، عشرة أيام ولا أستطيع النوم... لحظات مع كوابيس لا اعرف من أين تجيء؟ أراح ذقنه على يده وغاب عني. وقف إبراهيم ممسكاً بورقة، وقال بصوت المضطرب: "كتبنا بيان يوقعه المثقفون... يشتمل على مطالب ثلاثة... قطع العلاقات مع اسرائيل، طرد السفير، وقف ضخ النفط. صمت لحظة وواصل. "وحتى تتحول هذه المطالب سنضرب عن الطعام حتى الموت". صمت الجميع لحظة، رأيت خلالها عصفوراً ينتقل من شجرة لشجرة. تأملت وجه داوود الأسمر، ونظارته البنية ذات الإطار السميك، وشعره الأسود الذي خطّه الشيب، انحنى للأمام قليلاً، كان منشغلاً حين رأيته يضغط شفته السفلى، ويدفع بنظارته على عينيه، رفع رأسه ونظر ناحية إبراهيم. "لكن يا ابراهيم دي مطالب يستحيل تحقيقها... وانت عارف موقف الحكومة كويس". أجاب إبراهيم: "علينا تصعيد الأمور". قلت من مكاني بصوت عال: "لحد الصدام؟". "لحد الموت". قالها إبراهيم ورأيته يرتعش بالانفعال... كان وجهه قد نحل، يفرز عرقاً غزيراً، تذكرت سنوات طويلة ماضية، وتلك الأحلام التي عشناها ولم تتحقق ابداً... وأخذت أتأمل تلك المصائر التي دائماً ما تنتهي لما نحن فيه. عاد يؤكد. "إضراب حتى الموت". قال علي: "اقترح إضراباً رمزياً عن الطعام، كل جماعة تضرب ثلاثة أيام متواصلة، بكده، أولاً: يستمر الإضراب مدة أطول، وثانياً: تصل الرسالة للشارع، وعلينا بدعوة رجال الإعلام وكبار الكتاب للحضور، وكمان القنوات الفضائية". وكنت ألمح عبر السور جنود الأمن المركزي، وعرباتهم الخضراء تحتل الشارع، وأرى تجمعاتهم على الرصيف، وذلك الضابط الكبير يتكلم من جهاز اتصال في يده. انتهينا الى أن يكون اضراباً رمزياً. انقضى أول نهار، وحل على المكان الليل، وأضيئت في جنبات الحديقة مصابيح النيون، وتكاثفت الأشجار، اختفى الشارع، وغاب عنا الجنود. زحفت الساعات بطيئة، متوترة، اشتدت على المكان وأجساد الحضور كثافة من برد ليلي، وخلف النقابة لمة قادمة من ناحية دار القضاء العالي، كنا في الهزيع الأخير من الليل، وقد هجع المضربون عن الطعام في ساحة المسجد الصغير المقام على مساحة ضيقة من أرض الحديقة. كنت أجلس بجوار جذع شجرة النخيل ألوذ بصمت آخر الليل، غارقاً في ذكريات قديمة لم تغادرني ابداً، وكنت على نحو ألم أعيش مأساة حياتنا، تنتفض بداخلي الصور، وأتأمل عبر سنوات عدة مشهد تلك الجنازات التي تخرج من أزقة متربة، كأنني أشعر في هذا الوقت من الليل بسخونة أنفاسهم، وذلك الصدق المروع يقودهم نحو الموت... شعرت بلذعة البرد... نهضت أجمع من أرض الحديقة بعضاً من أغصان جافة، حفرت حفرة قرب باب المسجد، وألقيت الأغصان وبعض الأخشاب المهملة بالمكان وأشعلت النار... ارتفعت النار وضوّت شعلاتها تعكس الظلال على الجدران... رأيتهم يخرجون من المسجد فرادى ملتفين بأغطيتهم، يفركون أكفهم ويتحلقون حول النار البهية في ليل المدينة الصامت... نفذ الضوء وكشف عن الوجوه، وأحسست في لحظة كأنني في خلاء المقطم، تحت النجوم والشهب العالية، كنا صامتين، وسرى الدفء، وسرعان ما تخففوا من أغطيتهم، وشعرت بإحساسهم يطفو على النار. وبقدرتهم على الفعل والمقاومة. نهاران، وثلاث ليال عبرت فيها السماء ثلاثة أقمار مكتملة. تزدحم النقابة بالأصدقاء، وتفرغ منهم في منتصف الليل، وأحوال المضربين تسري في المدينة مثل صوت الرعد. في اليوم التالي جاءت قنوات التلفزيون والمراسلون الأجانب، وفي النهار صدرت صحف المعارضة بصور المضربين وشعاراتهم، في الليل حضر ضابط أمن الدولة بصحبة وكيل النائب العام وأجرى تحقيقه، وعين طبيباً يرى أحوال المضربين. مغرب اليوم الثالث كانت أرض الحديقة مفروشة بالرفاق، الصخب يعلو، والبيانات تقرأ، والبعض يطل على ساحة المسجد ملقياً السلام والسؤال. قوات الأمن الكثيفة تحاصر البناء، سيارتان مركونتان بجوار الرصيف، واحدة امتلأت عن آخرها بعساكر الأمن المركزي، ويقف أمامها ضابطان من أصحاب الرتب، يحملان جهازين للاتصالات، والجنود خلفهم مدججين بالسلاح. "ليل قادم" همست لنفسي وأنا انظر من خلف السور أراقب الشمس وهي تغيب ويحل على الحديقة ذلك المساء الغائم. لمحتها تدخل من الباب. وقفت لحظة تتأمل الجمع، وتسند ظهرها للحائط تحت يافطة القماش"فلسطين عربية"... رأيتها تبتسم، ورأيت وجهها تنيره أسنان بيض لامعة، رمت بشعرها الطويل خلف ظهرها، وخطت ناحية الجمع متوجسة، كانت صبية يا دوب في عمر ال15، ترتدي ثوباً من حرير توشمه وردات ملونة، وتحمل في يدها كتاباً مصوراً على غلافه بيت قديم، ترتدي سترة من قماش الجينز، وتشبك في كتفها حقيبة من الجلد. اقتربت مني وسحبت كرسياً وجلست وهي لا تزال تبتسم. لاحظتُ أن عينيها كبيرتان، صافيتان، وانها كلما ابتسمت رجعت بي لأيامي القديمة، كان وجهها النحيل، وتلك البراءة التي فاجأتني قد سمرتني على وجه الصبية، ولم يعد بإمكاني مغادرة تلك الملامح التي هبطت على المكان. رحبت بها فابتسمت لي وسألتني بمنتهى السذاجة: "هو فيه ايه يا عم؟". "إضراب... عاملين إضراب... علشان فلسطين". تداركت هامسة: "آه... صحيح"، وانشغل بالها. سرحت، وكأنها ترى ذلك التتابع لأطياف لا أراها أنا، والبنت التي لها وجه القمر تسابق قلبها في تأمل ما تراه مندهشة: قالت: "وهم هايفضلوا كده لحد ما يموتوا من الجوع؟... يا حرام!!". اقتربت مني، وقد احتضنت يدها، فقلت لها"ممكن". همست لنفسها مرة أخرى: "يموتوا من الجوع؟! يا نهار ابيض، دي تبقى كارثة". أدركتُ مدى طيبتها، وقلة خبرتها، ربما هي المرة الأولى التي تجوس في مثل هذه الأماكن. طلبت لها شاياً، شربته وحل صمت مفاجئ على المكان، ثم عاد اللغط يختلط، وأصوات تعلو هنا وهناك. فجأة، وعلى غير ما توقع انبعث صوت البنت بالغناء، نابعاً من حنجرة مثل ينبوع، انتبهوا للصوت وصمتوا، وبعضهم همّ نصف همة ليرى الصوت. كانت قد اعتدلت في جلستها وقد شدت من قامتها، ونهضت واقفة فبدت طافية على المشهد، يجسد بدنها ضوء المصابيح، وكانت الرؤوس تجاهها مشرعة، والبنت تغني بتلك الحماسة عن بلد بعيد، تلك الألفة وذلك الشجن الذي يعلو في الليل، وينبع من الجنة، اغنيات تخرج من الروح بذلك النغم فائق المحبة، وجلجلة تعلو مثل راية على مكان أليف. كنت مندهشاً، ومأخوذاً، كم من الزمن سيمضي لأمسك بتلك اللحظة مرة أخرى، لأقبض على خلود الزمان في هذا المكان الضيق من مدينة تعيش انكسارها، كم من الوقت سيمضي لأدرك ما يجسده صوت البنت تلك الليلة، خيّل إليّ لحظة كأنني في الحلم، أخرج من دروب المدينة القديمة وأدخل في مرج السماء النوراني. بدأت تطوف في المكان، والأصوات تستحثها: "غني يا سارة... غني". التهبت الجماعة، وأخذوا يرددون خلفها الكلمات، ودبت الحماسة في أرواحهم، وابتدأ الهتاف صاخباً، وانطلقت الشعارات تتجاوز الأسوار. حاصرت قوة الأمن الحديقة، وتقدم الضابط الكبير آمراً الجميع بالكف، وأنذرهم بفض الإضراب بالقوة، تصدى له أحد الرفاق مشوحاً بيده في وجه الضابط، هجم عليه الجنود بهراواتهم واسقطوه أرضاً وأخذوا يركلونه بالأحذية الميري، تحفزنا وهم يسحبونه ناحية السيارة في الشارع، نبهنا بعضهم: حذار، انهم يستهدفون فض الإضراب بالقوة... انتبهوا. عدنا وجلسنا، بحثنا عن سارة التي كانت تنتفض بجوار الحائط، دعوناها للغناء مرة أخرى لكن صوتها العذب لم يخرج مجلجلاً أبداً.