يبدو أن عدوى الانتحار و"موضة"الانتحاريين قد انتقلت الى إسرائيل من رأسها الى أخمص قدميها ومن قمة الحكم فيها الى قاعدة الرأي العام بسبب الاتجاه المفرط نحو اليمين وتزايد حالات التطرف الديني والعنصري والتغييرات الديموغرافية والسكانية التي طرأت خلال العقدين الماضيين. وبلغ المد الانتحاري مداه الأقصى في العملية الإجرامية المفضوحة التي نفذ بها الموساد الإسرائيلي اغتيال القيادي في"حماس"محمود المبحوح في دبي، ما أدى إلى انكشاف إسرائيل أمام العالم كله كراعية إرهاب وإجرام وانفجار أزمة مع دول كانت حتى الأمس القريب صديقة لها مثل بريطانيا وفرنسا وإرلندا والنمسا، وسط استياء واسع من استخدام جوازات سفر دول عدة، منتهكة كل القيم والقوانين ومبادئ الشرعية الدولية. ووصلت الأمور إلى إصدار الإنتربول"أوامر حمراء"باعتقال الفاعلين والمحرضين وربما كان بينهم رئيس"الموساد". كان العرب يُتهمون في الماضي بالتطرف والرفض وإضاعة الفرص المتاحة ومنح اسرائيل الذرائع والحجج لكي تشن عليهم الحروب ومعها حروب إعلامية لكسب الرأي العام العالمي وتشويه صورة العرب والمسلمين. أما اليوم فقد تحولت كل التهم الى إسرائيل بعد تغلب الأحزاب والفئات اليمينية المتطرفة من"الليكود"المتطرف الى الأحزاب الدينية والسياسية اليمينية العنصرية وعلى رأسها حزب"إسرائيل بيتنا"التي سبقت"الليكود"بأشواط و"بزّته"في التعصب والتكشير عن الأنياب والكشف عن كميات الحقد الدفينة في نفوس قياداتها وأعضائها والمجاهرة باستخدام العنف والإرهاب ضد المدنيين والأطفال والنساء والأبرياء. وكان العرب يضعون الشروط المتشددة ويصرون على السلام العادل الشامل والكامل وتحرير فلسطين من البحر الى النهر ويرفضون الاعتراف بإسرائيل وينقضون شرعيتها وينادون بالمقاومة ويرفعون سقف خطابهم السياسي فيما كانت إسرائيل تلعب دور الحمل الوديع وتدعي أنها"حمامة سلام"بريئة وتضع قناع الدولة الضعيفة الصغيرة المحاطة بعشرين دولة عربية ومهددة من قبل ملايين العرب مدعية أنها مجرد نقطة في البحار العربية. وهكذا خدعت إسرائيل العالم كله وحشدت الرأي العام وراءها لدعمها ومساندتها ولوم العرب كما تمكنت من جمع يهود العالم حولها وأقنعت الملايين من الشرق الى الغرب بالهجرة اليها. وزاد من التعاطف العالمي معها قيام بعض الفصائل الفلسطينية بعمليات انتحارية تسمى بالعمليات الاستشهادية استغلتها إسرائيل بقوة للتهويل والدفاع عن موقفها وتبرير مذابحها وعملياتها الوحشية وانتهاكاتها حقوق الإنسان والتعنت والتشدد في احتلال الأراضي العربية وبناء المستوطنات الاستعمارية ورفض الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 تنفيذاً لقرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام. وساعدت إسرائيل في الترويج لسياساتها الماكرة وتبرير سياستها وسائل إقناع ودعاية سوداء وحملات وعلاقات عامة مدعومة من لوبي صهيوني منتشر في الولاياتالمتحدة وأوروبا وصولاً الى روسيا والشرق مقابل غياب إعلامي عربي ومواقف مقنعة وواضحة أو نتيجة قصور وتقصير في المجالين. كما أسهم في رواج حملات التضليل والتعمية على المذابح والانتهاكات وجود تيارات إسرائيلية ماكرة وخبيثة تلبس لبوس الحمل وتتسلح بوسائل الإقناع والقدرة على كسب الرأي العام. فقد قامت إسرائيل على أكتاف المهاجرين الأوروبيين وأذرع اليهود الشرقيين كذخائر لحروبها ضد العرب، ولم يكن الانقسام بين اليهود"الأشكيناز"واليهود"السفارديم"ظاهراً للعيان بل كان هناك تنسيق وتعاون بين الشركاء الصهاينة مع سيطرة العرق الأوروبي واستئثاره بالقيادة في الأحزاب والحكومة والجيش والاستخبارات ونجاحه في فرض سياسة علمانية وسط تبادل الأدوار بين اليساريين واليمينيين وبين الشيوعيين والاشتراكيين والرأسماليين والغربيين، فلكل طرف دوره ولكل حزب زمانه وحدوده في إطار إستراتيجية صهيونية عامة لم تغفل حتى جزئيات التسامح مع فئات سياسية تحمل لواء السلام والمصالحة مع العرب وأخرى دينية ترفض وجود اسرائيل وشرعيتها. وحتى عهد قريب كان المسرح خالياً لإسرائيل تلعب فيه براحة ومعها أدوات التضليل وأسلحة الترهيب فيما يلعب الوقت معها ولمصلحتها وسط غياب عربي وقصور في المعالجة وانقسام في الصف وتشرذم وخلافات وحروب مؤسفة صرفت الأنظار وشتتت الجهود عن الخطر الأساسي وهو الكيان الصهيوني. ونسي العرب معاني مقولة أن الصراع مع إسرائيل هو صراع وجود لا صراع حدود حتى قيل في كثير من الأحيان أن اسرائيل لن تتمكن من هزيمة العرب بل أن العرب هم الذين سيهزمون أنفسهم بأنفسهم. كل هذا صحيح وحاصل لكن الظروف تغيرت الآن وانقلب السحر على الساحر وصرنا على قاب قوسين وأدنى من عكس التهمة الملصقة بالعرب وتحويلها الى اسرائيل لنقول انه إذا استمرت الحال على ما هي عليه الآن، فإن العرب لن يتمكنوا من هزيمة إسرائيل بل إن إسرائيل ستتولى الأمر وتهزم نفسها بنفسها وتنتحر بيدها لا بأيدينا، والبراهين على ذلك كثيرة وأكيدة ولا حاجة معها لشرح أو لتفصيل. فقد أعلن العرب تمسكهم بإستراتيجية السلام وقبلوا بالواقع وبالحدود الدنيا من الحل وقدموا مبادرة واقعية للسلام واعترف أكثرهم عملياً بإسرائيل على أرض فلسطينالمحتلة عام 1948 بعد سلسلة خطوات مصيرية أعطت هذا الكيان الغاصب الكثير من التنازلات من بينها المعاهدة مع مصر ثم مع الأردن، والأهم هو ما قدمه الفلسطينيون، أو بالأحرى قيادتهم، من خلال افاقات أوسلو وما تلاها من مبادرات ومشاريع وصولاً الى مشروع الرباعية و"خريطة الطريق". وتوقفت الانتفاضة ضد الاحتلال، وجمدت العمليات الاستشهادية وكل أشكال العمل الفدائي .. كما توقفت في العام الماضي عمليات إطلاق الصواريخ. في المقابل لم تقدم إسرائيل الا التعنت والرفض والتمادي في الغي والانتهاكات وقتل الأبرياء وشن الحروب تلو الحروب والتهديد بالمزيد ورفض الانسحاب ومجابهة العالم كله والمضي في بناء المستوطنات الاستعمارية في المناطق المحتلة. ومعاداة المسلمين بتهديد المسجد الأقصى المبارك وتعريضه لخطر الهدم بهدف بناء الهيكل المزعوم. ففي الداخل الإسرائيلي تغييرات جذرية وديموغرافية وسياسية تمثلت في تراجع القيادات التقليدية من اليهود الغربيين وتلاشي نفوذ الأحزاب اليسارية والشخصيات التي توصف بدعاة السلام ومن كان يطلق عليهم عن حق أو عن باطل"قوى الاعتدال"داخل حزب العمل وغيره وسيطرة أحزاب اليمين المتطرف والمهاجرين الروس والأحزاب الدينية الجشعة والمتعصبة والتي تعمل على ابتزاز الأحزاب الكبرى. وعندما نصح الرئيس الفرنسي ساركوزي رئيس الوزراء الإسرائيلي، الليكودي الماكر بنيامين نتنياهو بالتخلص من وزير خارجيته إفيغدور ليبرمان، قامت ضجة ضد ساركوزي، لكنه كان يدرك ما يقول إزاء وزير خارجية يهدد العرب ولا يخفي كرهه لهم وعزمه على ذبحهم ويجاهر برفض أي سلام مهما قدم من تنازلات. وها هي أسرائيل اليوم تدفع ثمن تعنتها وسيطرة المتطرفين المجانين على مقاليد أمورها وتظاهرها باللامبالاة والانتقاص من حجم ما يجرى من تغيرات ومنها: * أزمة في العلاقات مع الدول التي أقامت معها علاقات دبلوماسية أو تجارية مثل مصر والأردن وتونس وموريتانيا وقطر وسلطنة عمان والمغرب وهي دول جمدت أو قطعت ما أقامته من علاقات في شكل أو آخر. * إضاعة فرصة تاريخية مع الفلسطينيين الذين كانوا قد قبلوا بواقع أوسلو المزري لكنهم اليوم كفروا به وعادوا الى مشاعرهم السابقة وفقدوا ثقتهم بإسرائيل ونواياها. * فقدان ورقة إسلامية خطيرة كانت اسرائيل تتاجر بها وهي علاقاتها الإستراتيجية مع تركيا، والتفاصيل معروفة وما جرى أخيراً أكبر برهان. * تراجع تدريجي لدعم الرأي العام الأميركي والغرب لإسرائيل وانشقاق في الصف اليهودي في الخارج بقيام تكتلات معادية للتطرف ونشر بيانات لقوى يهودية غربية فاعلة تنتقد إسرائيل وتطالبها بالرضوخ لإرادة السلام. * تعريض علاقات اسرائيل مع الولاياتالمتحدة للخطر ومعاداة الإدارة الأميركية في السنة الأولى من عهد باراك أوباما الذي لم يخف امتعاضه من إسرائيل ولم يعارض ما هدد به مبعوثه الى المنطقة جورج ميتشل بالنسبة الى المساعدات وضمانات القروض. * تحول القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية الى مجرمي حرب يفرون من عاصمة الى أخرى ويخافون من الاعتقال في أية دولة بحكم قضائي نافذ. * إقرار تقرير غولدستون الخاص بفضح جرائم اسرائيل في غزة وتحويله الى سيف مصلت على رأس إسرائيل يمكن العودة إليه في أي زمان لمحاسبتها على جرائمها وانتهاكاتها للقوانين الدولية، إضافة الى إدانات المنظمات الإنسانية الدولية. * بروز حركات مقاومة مسلحة تهدد بتغيير قواعد اللعبة العسكرية وتتحدى قدرة إسرائيل على السيطرة والتفرد في الجو والبر إضافة الى خطر نشوب حرب مع إيران لا بد أن تكون لها نتائج مدمرة. وبعد، هذا غيض من فيض، وللبحث صلة قريباً جداً لمتابعة النزعة الانتحارية التي تغلب على طابع إسرائيل هذه الأيام. فالعدوى انتقلت بنجاح منقطع النظير وعدم السعي للشفاء منها ورفض العودة الى جادة الصواب والحق والشرعية الدولية والخضوع لقواعد اللعبة الجديدة ومقتضيات المصالح العالمية واتجاهات الرأي العام، ما يعني حتماً الوصول الى النتيجة الطبيعية للانتحار وهي: الموت المحتم. * كاتب عربي نشر في العدد: 17132 ت.م: 01-03-2010 ص: 13 ط: الرياض