الأزمة الخانقة التي تعيشها اسرائيل اليوم لا بد من أن تفتح أعين العرب على الحقائق وتدله على واقع مؤسف لا بد من العمل على فهمه أولاً ثم دراسة كيفية التعامل معه ومواجهته إن لزم الأمر. هذه الأزمة لا بد من أن تدفعنا الى طرح سؤال بديهي وهو هل السلام ممكن مع اسرائيل؟ ومن هذا السؤال تتفرع أسئلة أخرى مثل: أي سلام يمكن أن يتحقق في ظل تطورات متلاحقة تثبت أن الاتجاه نحو اليمين يتزايد وأن مشاعر الكراهية والعنف والتصلب والعداء للعرب تتنامى يوماً بعد يوم؟ وهل لو تم التوصل الى سلام ولو كان منقوصاً أو ناقصاً فإن الصراع الاسرائيلي - العربي سينتهي وتعيش المنطقة في استقرار وكأن شيئاً لم يكن بعد أكثر من نصف قرن من الحروب والمذابح والفتن؟ وأي سلام هذا الذي يتحدثون عنه؟ ومع من؟ مع أكثرية صهيونية متطرفة لا تفهم إلا لغة القوة ولا تعترف بأي حقوق للعرب... وللشعب الفلسطيني بالذات؟ وهل يمكن استمرار سلام مع بحر من التعصب؟ وهل يمكن التعايش مع أمواجه الهائجة وزبده المتوحش؟ لقد تنازل العرب عن معظم أوراقهم: الاعتراف والكبرياء والكرامة وكثير من الحقوق في الأرض والمياه والسيادة وتعاملوا بجدية مع الواقع عندما طرحت مبادرة السلام الاميركية عام 1991 وعضوا على جراحهم وتناسوا أحزانهم وسكتوا على الضيم والظلم التاريخي والانساني وتوجهوا الى مدريد بقلوب صافية ونيات صادقة ورغبة أكيدة بتحقيق السلام الشامل والعادل على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض في مقابل السلام مع إيمانهم التام بأن مثل هذا السلام لا يكتمل إلا باستعادة الحقوق والأراضي المحتلة كافة وتحرير فلسطين وانقاذ القدس والمقدسات. ولكن ماذا حصل العرب لقاء هذه التنازلات؟ وما هو الثمن الذي قبضوه تعويضاً عن الثمن الباهظ الذي دفعوه عندما تخلوا عن لاءاتهم وشروطهم وأوراقهم وأولها ورقة الاعتراف بعد اقتناعهم بوجوب مسايرة الواقع المرير وتفهم أبعاد المتغيرات الدولية والتعامل مع القضية بروية وحكمة وفق شعار "ليس بالامكان أحسن مما كان" بدلاً من مبدأ المرحلية و"خذ وطالب" فلا هم أخذوا ولم يمنحوا حق المطالبة ولو بالحد الأدنى؟ نعم لم يحصل العرب سوى على الفتات ولم تقابل نياتهم الحسنة إلا بالتعنت والمماطلة والمناورة ومحاولة كسب الوقت والتحايل على الشرعية الدولية وضرب وحدة الموقف واللاعب بالاتفاقات والكلمات والمفاهيم. حتى الاتفاقات التي تم التوقيع عليها بقيت حبراً على ورق وضاعت في متاهات المكر الصهيوني لتحاول اضاعة الحقوق وتكريس احتلال الأرض. النيات الحسنة العربية والرغبة الأكيدة باحلال السلام في المنطقة قوبلت في اسرائيل بظواهر خطيرة تمثلت في تزايد قوة الاتجاهات المتعصبة والمتطرفة وتعاظم نفوذها لدرجة ان حزب الليكود اليميني المتطرف صار على يسارها على رغم تعنته الظاهر والباطن. منذ بدء مؤتمر مدريد حتى يومنا هذا تنامت هذه الظواهر اليمينية بشكل فاضح، ولم يعد الصهاينة يخفون كراهيتهم للعرب ومخططاتهم الاستيطانية التوسعية ومؤامراتهم التي تتواصل فصولاً ضد المسجد الأقصى المبارك والمقدسات الاسلامية والتخطيط لبناء الهيكل المزعوم. أما الأزمات الحكومية فحدث عنها ولا حرج: 5 حكومات اسرائيلية تناوبت على الحكم خلال أقل من عشر سنوات بين يمين ويسار وليكود وعمل... من السفاح اسحق شامير الى اسحق رابين ومن شيمون بيريز الى بنيامين نتانياهو ثم الى ايهود باراك وسط "حالة أزمة" مزمنة يراها أصحاب نظرية المؤامرة مفتعلة بينما يراها من يتعمق في الشأن الاسرائيلي مرضاً مزمناً وسرطاناً خطيراً يهدد مسيرة السلام في أية لحظة وينذر بفتن ومواجهات وربما عودة الى حال الحرب، على رغم أن الحروب في الوقت الراهن أصبحت مستبعدة بشكلها التقليدي المعروف. أحزاب متطرفة، يمينية ودينية وعنصرية تطفو على السطح وتتنامى كالفطريات وتكسب شعبية متزايدة في كل انتخابات تشهدها اسرائيل... واتجاهات متطرفة تدعو للقتل والتدمير وطرد العرب واغتيال كل من تسول له نفسه المضي في مسيرة السلام كما حدث لرابين على رغم معرفتنا أنه لم يكن داعية سلام، بل مجرد جنرال تحول الى السياسة وتعامل مع الواقع وحاول التوصل الى اتفاقات مع العرب فجاءه الرد برصاصة من يهودي متطرف يعتبر واجهة لأجهزة وفئات وانتماءات لا تريد السلام. وعلى رغم أن المتضرر الأكبر من تنامي هذه الاتجاهات هو مسيرة السلام وان الذين يدفعون الثمن الباهظ هم العرب بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص فإنه لا بد من الاعتراف بوجود أزمة داخلية في اسرائيل وبازدياد مخاطر الصراع الحتمي داخل المجتمع الاسرائيلي أو بتعبير أدق "المجتمعات الاسرائيلية" لأن هذا النسيج الهجين الاصطناعي لم يكن يوماً ولن يكون وحدة متكاملة ولن يشكل شعباً واحداً بل هو نتاج تجمع جملة متناقضات ومجموعات متباينة الأهواء والثقافة والأصل والهوية والتفكير من شرقيين وغربيين، يمينيين ويساريين وعلمانيين ومتدينين وجماعات دينية متطرفة وأصولية بعضها يرفض حتى شرعية وجود اسرائيل بشكلها الحالي. والأزمة التي تواجه باراك اليوم ستدفعه دفعاً لاجراء انتخابات برلمانية مبكرة حتى ولو تمكن من إعادة تشكيل حكومة تحظى بغالبية بسيطة، لأن الهدف هو عرقلة مسيرة السلام وكسب الوقت لإتاحة الفرصة للصهاينة لإكمال مخططاتهم التوسعية. والأكيد أن نتائج الانتخابات المرتقبة ستكون على نمط مختلف الانتخابات التي شهدتها اسرائيل خلال العشرين سنة الماضية بغضّ النظر عن تمكن باراك من العودة على رأس حكومة لحزب العمل أو تمكن ليكود من العودة للحكم. فالاحزاب الدينية واليمينية المتطرفة ستفوز بعدد أكبر من المقاعد كما حدث مع حزب شاس الذي يملك 17 مقعداً في الكنيست الحالي مما يمكنها من الامساك بزمام الأمور وفرض شروطها الابتزازية وعرقلة أي اتفاق للسلام مع العرب. وما فشل شيمون بيريز ونجاح موشيه كتساف أو قصاب بانتخابات رئاسة الدولة سوى "بروفة" سياسية لما ستشهده اسرائيل خصوصاً أنها تمكنت من السيطرة على زمام أمور العالم وفرضت وصايتها على الولاياتالمتحدة وحولت انتخاباتها التي يفترض أن تكون منارة للديموقراطية الى تنافس على كسب ود اسرائيل والتسابق على نقل السفارة الأميركية الى القدس واختيار آل غور واليهودي ليبرمان نائباً له في انتخابات تشرين الثاني نوفمبر المقبل ارضاء لاسرائيل واللوبي الصهيوني. وتناقضت التفسيرات الاسرائيلية وتضاربت حول اسباب تنامي هذه الظواهر فبعضها اعتبر أن الهدف هو رفض التسوية السلمية والاصرار على عدم التخلي عن أي شبر من القدس بينما اعتبر البعض الآخر أن ما يجري هو تعبير عن واقع المجتمع الاسرائيلي المنقسم على نفسه وأن الطوائف الشرقية بدأت تتمرد على الواقع وترفض هيمنة الطوائف الغربية والعلمانية على اسرائيل منذ عام 1948. ومع هذا فإن الرابط بين التفسيرين واحد وهو معاداة العرب ورفض السلام إما بسبب موجة التطرف والتعصب السائدة أو بدوافع الاقتناع بأن الصراع الداخلي في اسرائيل لا بد من أن ينفجر لمجرد احلال السلام الكامل وبعد زوال الخطر الخارجي وتحييد "العدو الأكبر" أي العرب. فإن الاسرائىليين سيشهدون حروباً داخلية وصراعات اجتماعية ودينية وعقائدية بين العلمانيين والمتدينين وبين الفقراء والأغنياء وبين الشرقيين والغربيين مما دفع باراك الى الاعلان أخيراً عن عزمه القيام بثورة علمانية خلال سنة ووضع دستور لأول مرة في تاريخ اسرائيل يضمن المساواة ويخفف من هيمنة الأحزاب الدينية. بانتظار جلاء الموقف تتنامى موجة العداء ضد العرب وتباهي الصهاينة وتنافسهم على شتمهم وتوجيه الاهانات لهم وتهديدهم بالقتل والتشريد والطرد وإعلان نياتهم الحاقدة بتدمير المسجد الأقصى المبارك وبناء الهيكل المزعوم خصوصاً أن عقيدتهم تحض على قتل غير اليهودي وسلبه أمواله وممتلكاته وسبي نسائه. وهذا ما عبر عنه عدد من المفكرين والكتّاب الاسرائيليين أخيراً من أن ما قاله عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس يعبر جيداً عما تفكر به الغالبية العظمى من جمهوره. وهو عندما شبه الفلسطينيين بالأفاعي كان يعرف جيداً أن قادة غيره سبقوه وشبهوا العرب بالصراصير والحشرات في تصريحات عنصرية مماثلة. هذا الواقع المزري يمكن أن نلمسه جيداً من خلال متابعة الجدل الدائر في اسرائيل الآن والمخاوف التي يبديها بعض الكتّاب مثل أهارون أمير معاريف الذي تحدث بإسهاب عن تنامي التيار الديني واليميني بقوله: "إذا كنا نعيش الآن في دولة تنقسم ليس بين الدين والعلمانية بل بين الألفية الثالثة بعد الميلاد والألفية الثالثة قبل الميلاد... بين مكانة قوة اقليمية الى دولة تعيش في غيتو، بين قمة التقدم العلمي والتكنولوجي وقمة التخلف الفكري الروحي. وهذا يعود الى القرارات البائسة التي اتخذت منذ بداية الدولة نتيجة لتشوه ذهني جماعي. والنتيجة المأسوية المصحوبة بمقاطع بارزة من الكوميديا هي أنه ليس لدينا دولة مقيدة بالقوانين بل دولة مقيدة بالتمائم الدينية. دولة تستهجن نفسها قانونها، عملها والغريبة عن أنماط سلوك وعمل المجتمع المدني... انها دولة أضحوكة". أما ليلي جارتس هآرتس فقد تحدثت هي الأخرى عن الانقسام داخل المجتمع الاسرائيلي ووصفته بأنه متفسخ وان الشلل يضرب يمينه ويساره فيما الجمهور غارق في اللامبالاة وقالت: "الكل يكره الكل وأصبح من الصعب أن نتوحد حتى حول قضية غير مثيرة للاهتمام. ليس في اسرائيل مجتمع مدني بحسب المفهوم المتعارف عليه لا في الحرب ولا في السلم". أخيراً نقتبس من ريثوفين ميران يديعوت أحرونوت قوله "ان الأزمة الحكومية الحالية ليست سوى طرف خيط مرحلة خطيرة ومعتمة. ان الذي يكمن في اعماق بحر الكراهية والعداء والعنصرية والتشهير هو أزمة هوية وثقافة، وشرخ أصيل بين وجهات نظر مختلفة، الجسر بينها محكوم ومستحيل. واسرائيل لم تستطع أن تتحول دولة مدنية حقيقية منذ إقامتها حتى يومنا هذا... وفي مثل هذا الوضع تتضاءل فرص نشوء الدولة ككيان سياسي مستقل بمقدورها الدفاع عن نفسها... وتتضاءل أيضاً فرص التوصل الى تسوية سلمية تساعدها على الاستمرار". هذا الكاتب يتوقع ان يتحلل الكيان الاسرائيلي في المستقبل بحيث لا يبقى منه سوى البكاء على الأطلال اذا لم يتم ايجاد حلول للمشكلات والخروج من المأزق الراهن... وهذا قد لا يحصل اليوم ولا غداً ولكن علينا كعرب أن نتابع مجريات الأمور في اسرائيل والتعامل معها بحكمة وروية وحذر. ولهذا لا بد من إعادة توحيد الصف العربي أولاً لمواجهة المستجدات وبناء القوة العربية وإعادة التوازن الاستراتيجي لأن اسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة كما جرى في جنوبلبنان. على أن تتزامن هذه الخطوات مع المضي في مسيرة السلام وتأكيد تمسك العرب بما التزموا به لأنه ليس من مصلحتهم التخلي عنها في منتصف الطريق ويتحملوا المسؤولية أمام العالم. ولا بد من مخاطبة الرأي العام الاسرائيلي بأسلوب مختلف ينطلق من مفاهيم أهمية تحقيق السلام ومصلحته فيه اضافة الى تشجيع تيار السلام على رغم ضعفه وتلاشيه، ودعم عرب الداخل الذين يشكلون قوة انتخابية وسياسية متزايدة النفوذ عاماً بعد عام ويمكن أن يوصلوا الى الكنيست 12 عضواً ما سيؤدي الى تحولهم، أراد الاسرائيليون أم لم يريدوا، الى كتلة أساسية تعتبر بمثابة بيضة الميزان في التوازنات الاسرائيلية. فالمتغيرات داخل المجتمع الاسرائيلي كبيرة وواسعة ومتسارعة، وانعكاساتها لا بد من أن تؤثر على أوضاع المنطقة بشكل عام وتعيد طرح السؤال الأول: أي سلام مع موجات التطرف والتعصب الصهيوني؟ * كاتب وصحافي عربي