منذ"شفافية"الرئيس السابق للاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف والتي عُرفت بالغلاسنوست، باللغة الروسية، وهزت العالم في أواخر الثمانينات من القرن الماضي وآلت إلى التحولات الديموقراطية العميقة في مجتمعات أوروبا الشرقية وتفكيك الكتلة الإيديولوجية والسياسية والعسكرية لحلف فرصوفيا والمعسكر الشرقي آنذاك، ندر أن أحرزت"المعلومة الإخبارية"على حيّز من الاهتمام مثل الذي تحظى به اليوم في ظل تسريبات موقع ويكيليكس. لكنّ المشكلة أننا نحن المسلمين معتادون على قبول وتقبّل ما يُفجع من الأخبار عن فلسطينوالعراقولبنان والسودان وأفغانستان والصومال وغيرها إلى درجة أننا قد نترك فرصة ويكيليكس تفوت من دون الانتفاع بها. والتفريط في الفرصة واردٌ لأنّ"فضيحة"ويكيليكس لا تخلو من عنصر الألم والمعاناة حيث أنّ الموقع زوّد العالم عموماً والمسلمين خصوصاً بتسريبات حول خفايا سياسات مؤلمة في العراق الدامي من بين بلاد شقيقة وصديقة عدة، وهو البلد الشقيق الذي يستأثر، بمعية فلسطين، بنصيب الأسد من انشغال المنشغلين، من بين المسلمين وحتى من غير المسلمين، في العقدين الأخيرين. أمّا الذي يفرّق بين ثقافة الألم التي أردنا لأنفسنا أن نكون مجبولين عليها إلى حين والمادة التي يجودُ بها علينا ويكيليكس هو أنّ هذه الطريقة الأخيرة في التعامل مع المادة الإخبارية هي من صنف"الإسهال الإعلامي"ألتمس المعذرة لدى الإخوة والأخوات القراء. كما أنّ الملاحظ أنّ هذا الإمداد الإخباري المنقطع النظير يأتي في وقت بدأت قوى الهيمنة الاستعمارية العالمية المعاصرة أميركا وإسرائيل ومَن والاهما في الاستسلام. وإن لم تستسلم علناً في العراق وفي أفغانستان مثلما استسلمت باحتشام وخجل في لبنان قبل بضعة أعوام، فذلك من باب الكبرياء لا غير. بينما كل الشواهد تدلّ على أنّ رموز القهر العالمي متأهبون للاعتراف بذنوبهم في حق الشعوب المُعوزة في تلك الربوع وفي غيرها. وويكيليكس واحد من هذه الشواهد"ومن عوارض حمّى"الاستبداد الديموقراطي"بالشعوب المستضعفة بحسب قول الدكتور عصمت سيف الدولة. فقط هم ينفذون الاعتراف بذنوبهم على الطريقة الكهنوتية، من خلال شباك اسمه ويكيليكس ومن وراء ستار اسمه الديبلوماسية العالمية وبحضور قسّ اسمه جوليان أسانج وصكّ غفران بغير عنوان ينتظرون أن يمسكوا به في أيديهم ما أن تنطلي الحيلة على المغفلين منّا. لكنّ المعروف عن"الاعتراف بالحق"عندنا أنه"فضيلة". وهو فضيلة عندما يتمّ التوجه به مباشرة إلى المتضررين من الخطأ المقترف في حقهم. وهذا لم يحصل ولن يحصل لدى المذنب، المستعمر والمستنزف للخيرات والأرواح، في حق المتضررين من أمة العرب والمسلمين. لذا فمن الأجدر أن تعمل هذه الأخيرة، وهي المؤْمنة بأنّ الاعتراف بالحق فضيلة، على تحويل ظاهرة ويكيليكس إلى واقع مُجسد للفضيلة خير ما يكون التجسيم لفضل المسلم على نفسه وعلى أمته وأيضاً على كل المناصرين للحق والعدل في العالم، في مشارق الأرض ومغاربها. ويكمن السرّ، حول إمكانية استفادة المسلمين من الاعتراف الويكيليكسي المشوب بالنفاق، في تحويل نظرة المسلمين، نخباً وشعوباً، إلى الأوضاع التواصلية العالمية، بحيث يكونون قادرين على: أولاً، تجنّب الوقوع في فخ الاعتقاد بأنّ تسريبات ويكيليكس جاءت لهم بالمعلومة الجديدة. فالذي عانى منه المسلمون على أرض الواقع من قبل ويكيليكس إنما هو الخبر اليقين. وما تسريبات ويكيليكس سوى خبرٌ عن الخبر. وهل يصحّ أن نترك الخبر لنتعلق لا قدّر الله بخبر الخبر؟ إذا وقع الجهاز الإعلامي في البلاد العربية الإسلامية في هذا الفخ، سيكون لعملية تسريبات ويكيليكس مفعول المتنفس لدى قوى الترصد للخطأ العربي وقوى الأنانية المادية المركنتيلية وقوى الشوفينية اللاهوتية العالمية المتسترة بالعلم والعقلانية والعلمانية. وبالتالي سيكون العرب والمسلمون هم الذين لبّوا شروط الاعتراف كما يرغب أصحابه في تحقيقه. وسيكون انتصاراً فعلياً آخر لآلة الحرب الإعلامية العالمية المهيمنة. ثانياً، استغلال حدث ويكيليكس إعلامياً وتواصلياً من أجل بناء منظومة عربية إسلامية مضادّة للإعلام العالمي المهيمن بكافة جوانبه وأجنحته، الخفية منها والظاهرة، المتسترة منها والمكشوفة. في ضوء هذا يكون خير ما يأمل المسلم في إنجازه أن يصير مجتمعنا الكبير أكاديمية لإنتاج المعلومة البنّاءة، المؤَمّنة للكرامة والشاحذة للهمم والمحفزة للعمل، لا حاوية لذنوب المذنبين. محمد الحمار - بريد إلكتروني