عندما تزول زوبعة تسريبات «ويكيليكس» عن الإعلام والاهتمام العالمي وتنحسر الدهشة بها قريباً، سيبقى واقع الأدلة والتوثيق العلني للديبلوماسية السرية حدثاً ذا معنى، حاضراً ومستقبلاً. ستترتب على نشر وثائق المراسلات الديبلوماسية استحقاقات لا تنحصر بكيفية وحرية وسرية المحادثات غير العلنية وإنما تطاول صنع القرار بحد ذاته. فما تم نشره حتى الآن من تسريبات «ويكيليكس» لم ينطو على جديد مدهش، لكنه أوضح معالم سياسات عدة ستدفع أصحابها الى حسم القرار والخيار. هذه التسريبات وضعت الرئيس الأميركي باراك أوباما في طليعة القادة الذين سيضطرون للحسم بين خيار الديبلوماسية والخيار العسكري نحو إيران. وهذا بحد ذاته قد يؤدي إما الى إدراك القيادة الإيرانية أن مسافة اللعبة السياسية المحنكة بدأت تتقلص، وبالتالي، حان وقت التراجع عن التصعيد واستبداله بمضاعفة حظوظ الصفقة السياسية من أجل قطع الطريق على الخيار العسكري، إما بقرار أميركي أو بتوريط إسرائيلي لإدارة أوباما. وإما قد تؤدي وثائق «ويكيليكس» الى التعجيل بضربة عسكرية لإيران بسبب ما كشفت عنه من تقدم كبير في حيازة إيران على القدرات المتطورة في برنامجها النووي العسكري بمساعدة كوريا الشمالية، أي إن هذه الوثائق قد تفتح باباً جديداً لما يسمى «الصفقة الكبرى»، وفي الوقت نفسه ستزداد الضغوط من أجل حسم التعامل مع الملف النووي الإيراني عسكرياً. لذلك، يجدر بالقيادات العربية أن تبدأ بالتفكير والتعمّق في الاستراتيجيات المتاحة ما بعد «ويكيليكس»، لا سيما أن هذه التسريبات قد تضع الخطاب السياسي العربي في موقع أضعف تجاه كل من إيران وإسرائيل، لأسباب مختلفة. فإذا كان هناك احتمال تجدد الحديث عن عناصر «الصفقة الكبرى» أو إذا كان هناك احتمال لعمل عسكري أميركي – إسرائيلي نحو إيران، ستكون للتطورين إفرازات على الدول العربية الأفضل مواجهتها باستراتيجية استباقية. هذه الاستراتيجية ضرورية أيضاً لأن ما تم نشره من وثائق «ويكيليكس» حتى الآن ليس سوى جزء من آلاف الوثائق التي ربما تحمل بين طياتها الجديد والمدهش. فنحن لا نعرف إن كانت الصحف التي حصلت على «سبق» نشر الموجة الأولى من الوثائق قد مارست دور «الرقيب» على نفسها وحجبت عمداً الوثائق الأهم والأخطر. لا نعرف إن كان الفوج الثاني من الوثائق سيكشف، مثلاً، عن المراسلات الديبلوماسية السرية التي تفضح الجانب الإسرائيلي في اللعبة السياسية السرية بعدما ركز الفوج الأول على المواقف العربية من التسلح النووي الإيراني. نعرف، بالتأكيد، أن تسريبات «ويكيليكس» وثّقت فقط الديبلوماسية السرية المقننة مع الولاياتالمتحدة، وليس تلك المقننة مع روسيا أو الصين مثلاً. وإذا كان من إيجابية للولايات المتحدة في هذه الفضيحة فإنها تكمن في «شفافية» السياسة الأميركية، لأن ما حملته الوثائق سبق تسريبه عبر المسؤولين الأميركيين الذين تحدثوا الى الإعلام شرط حجب أسمائهم. اللهم، إلا إذا كان ما حُجِبَ نشره هو المفاجأة التي تم احتواؤها بديبلوماسية سرية مدهشة. لربما من إيجابيات تسريبات «ويكيليكس» أن تكف القيادات عن التحدث بلغة معينة مع قاعدتها الشعبية وبلغة مخالفة ومناقضة مع الحكومات الإقليمية والدولية. فالجمع بين اللغتين في خطاب واحد واضح له أكثر من مردود بعدما أثبتت «ويكيليكس» خرافة السرية في الديبلوماسية الخفية. فهو قد يوقف نزيف انعدام الثقة بهذه القيادات ويضع حداً لتدهور الاحترام الشعبي لها. وهو أيضاً قد يفيد في بناء علاقة شراكة حكومية – شعبية وصوغ مواقف تدهش الذين راهنوا دوماً على انتصار الازدواجية العربية. فهذه التسريبات تقدم أدوات إقامة تلك الشراكة. الارتياح الإسرائيلي لنشر وثائق «ويكيليكس» لا يدل على صدقية مواقف القادة الإسرائيليين. ما قاله رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو واصفاً المجتمع الإسرائيلي بأنه مفتوح حيث «لا يوجد فرق كبير بين ما يقال في السر وما يقال في العلن» هو الازدواجية بعينها. فإسرائيل، ونتانياهو بالذات، تختبئ وراء اعتبارات «الأمن القومي» لإخفاء المعلومات وتحريف الوقائع ومنع الإعلام من ممارسة عمله. وهي بذلك تتعمّد منع مجتمعها والعالم من الاطلاع على ما تقوم به من خروقات وانتهاكات للقانون الدولي ولحقوق الإنسان بذريعة «الأمن القومي الإسرائيلي». تسريبات «ويكيليكس» تحدّت جذرياً اختباء الحكومات وراء ذريعة «الأمن القومي» كما تحدّت الإعلام للكف عن الإذعان حالما ترفع حكومة ما تلك الراية في وجهه. مؤسس موقع «ويكيليكس»، جوليان اسانج، ليس داعية بنّاءة ولا ينطلق من مبدأ إصلاح الحكومات أو الإعلام. وبحسب مقرب منه شارك في «قمة مجلس الأجندة العالمية» التي نظمتها حكومة دبي بالتعاون مع «المنتدى الاقتصادي العالمي»، أن جوليان اسانج يكنّ أشد الكراهية والازدراء للصحافيين والسلطة على السواء. هدفه أن يكشف ليفضح ويدمّر وليس أن يكشف ليُصلح ويعيد البناء. على رغم ذلك، نجح هذا الرجل «المطارَد» والمطلوب للعدالة في أن يجبر السلطة والإعلام على إعادة النظر في علاقاتهما، وعلى إعادة التدقيق في الذات، وعلى بدء التفكير في أسس جديدة لعلاقات مختلفة. وهذا أيضاً قد يكون من إيجابيات ما فعلته تسريبات «ويكيليكس». مثال آخر من الإيجابيات قد يتمثل بكف القيادات عن إنفاق الأموال والجهود والتظاهر بالاحترام والتقدير لبعضها البعض لتقطع المسافة مباشرة الى قدر أكبر من الصراحة والصدق وتبادل الآراء في الديبلوماسية والخيارات المتاحة. بالطبع، أن ملح رجال السياسة وأكثرية قادة الدول هو المواربة وإخفاء الأوراق في لعبة السياسة وفنون التفاوض. هذا سيستمر. لكن مستوى اللعبة قد يرتفع ليس لأن الاستخبارات في الدول لم تكن تتصور أو تعلم بفحوى البرقيات والمراسلات الديبلوماسية، وإنما لأن لا داعي للتظاهر بعكس التقليدي المعهود بعدما تم الكشف عنه علناً. وعليه، ربما يكون الأداء السياسي والديبلوماسي أرفع مستوى. لن يرحب الديبلوماسيون بتسريبات تسلبهم أدوات اللعبة الديبلوماسية الممتعة التي تقترب من التجسس أساساً بسبب ذلك القدر من السرية التي تحاط به المواقف معظم الوقت بلا ضرورة أو حاجة. وللشماتة، إن الديبلوماسية الأميركية منذ سنوات عدة أخذت على عاتقها الاختباء وراء السرية، إما من اجل السيطرة على الإعلام نفسه وليس فقط السيطرة على المعلومات، أو من أجل التضليل عمداً باستخدام بذيء أحياناً لوسائل الإعلام والإعلاميين. وأيضاً للشماتة، إن الكثير من الوسائل الإعلامية الأميركية خضع للعبة الجديدة مع الإدارة والكونغرس الأميركي وفقد البوصلة الأخلاقية وأصول المهنة. تسريبات «ويكيليكس» لن تصلحه بالضرورة لكنها قد تفرض قواعد مختلفة على الإعلام وعلاقته مع السلطة، والعكس بالعكس. الصين – وكذلك روسيا الى درجة أقل – لا تعاني من مشكلة مماثلة، سلطة أو إعلاماً، لأن السلطة أساساً لم تتظاهر بأنها ديموقراطية تؤمن برسالة الإعلام لتنوير الناس وليكون شاهداً ومراقباً للسلطة كي يحاسبها الناس. هذه ليست مشكلة الصين، ولا هي مشكلة الإدارة الأميركية مع الصين. مشكلتها قد تكون في كشف «ويكيليكس» عما كانت كوريا الجنوبية عرضته طبقاً لبرقية أميركية سرية من حوافز تجارية لإقناع الصين بقبول كوريا موحدة حال انهيار نظام بيونغ يانغ، فيما نقل سفير واشنطن لدى سيول معلومات بأن الكوريين الجنوبيين يعتقدون أن الصفقات التجارية المناسبة ستساعد في تهدئة «مخاوف الصين إزاء التعايش مع كوريا بعد إعادة توحيدها» وارتباطها بتحالف مع الولاياتالمتحدة. فإذا كانت الصين جاهزة سابقاً للتجاوب مع أدوات الترغيب بصفقات وحوافز تجارية، لربما تكون اليوم أقل استعداداً لذلك لأنها باتت مُحرجة علناً. وهذا افراز مهم من افرازات تسريبات «ويكيليكس». ثم أن الوثائق أيضاً تحدثت عن موافقة صينية على الالتحاق بإجماع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن على قرار تعزيز العقوبات على إيران مقابل حوافز وتعهدات ومكافآت ضخمة. وهذا الكشف بدوره قد يؤثر في الجولة المقبلة من التفاوض بين الدول الخمس وإيران – سلباً أو إيجاباً – لا سيما أن الصفقات الثنائية بين الولاياتالمتحدةوروسيا في ما يتعلق بالدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية وغير ذلك أسفرت عمّا تؤكد وثائق «ويكيليكس» انه أفضل إنجاز سياسي لباراك أوباما: حشد موافقة روسيا والصين على تعزيز العقوبات على إيران. لغة المصالح وتزاوج الحوافز الاقتصادية مع الاعتبارات الأمنية ليس جديداً في علاقات الدول. الجديد هو أن تعرية الأسرار الديبلوماسية سيؤثر قطعاً في تموضع كافة الدول لفرز خريطة جغرافية سياسية مختلفة. قد يقال إن تسريبات «ويكيليكس» أوضحت كيف أن الولاياتالمتحدة هي «إمبراطور بلا ثياب». وقد يقال إن الأسوأ هو في استمرار تظاهر أمثال الصين وروسيا بأنهما «إمبراطور غير عار» لأن موقع «ويكيليكس» لم يصبهما بسهم الفضائح والإحراج. قد يتم احتواء الأفواج الأخرى من التسريبات، وقد يكون جوليان اسانج قد استعد لذلك مسبقاً، والآتي أعظم. إنما ليس كافياً أن «تتضامن» قيادات العالم في التعرض ل «ويكيليكس» أو ملاحقة اسانج. يجب على القيادات الاستفادة من دروس «ويكيليكس» بدلاً من دفن رؤوسها في الرمال وهي تتمتم «جريمة» أو «مؤامرة» أو «فخ» أو «لا يعنينا» أو «خطورة» كشف الأسرار. يجب الاستباق بسياسات واعية تستفيد من قراءة معمقة لما نقلته البرقيات السرية من اجل تجنب الحروب بدلاً من الاضطرار لها، ومن اجل التموضع الذكي في حال حدوث «الصفقة الكبرى» أو في حال حدوث تداعيات لما يسمى بذلك «الفخ» أو «المؤامرة». أثناء «قمة مجالس الأجندة العالمية» بدأ «المنتدى الاقتصادي العالمي» بناء «شبكة تجاوب مع المخاطر» هدفها الجمع بين قادة الفكر من مختلف القطاعات والعالم سوية مع صناع القرارات لتصوّر الحلول ورسم استراتيجياتها وللتجاوب مع التحديات الملحة ومع المفاجآت العالمية الخطيرة. تسريبات «ويكيليكس» استحوذت على مخيلة واهتمام هذه الحفنة المميزة من قادة الفكر إنما مع انتظار وضوح ما إذا كانت هذه «زوبعة في فنجان» لا سابقة لها أو حدثاً جذرياً لن نعرف مخاطره أو فوائده ما لم نطّلع على مئات الآلاف من الوثائق السرية التي لم تُنشَر لعلها تتطلب «شبكة تجاوب» لا مثيل لها.