أثارت سياسة تركيا الجديدة في الشرق الأوسط الجدل والقلق في الغرب. ويعود ذلك في شكل جزئي إلى أن قادة حزب"العدالة والتنمية"قدموا انخراط تركيا المفاجئ مع المنطقة بلغة شعبوية ودينية، كما أنهم سلطوا الضوء على دفء علاقاتهم الشخصية مع الزعماء المسلمين. بالإضافة إلى أنه كلما تحسنت علاقات تركيا مع الدول الإسلامية، كلما بدت علاقتها مع إسرائيل في حالة تدهور. وطالما كانت لتركيا أسباب وجيهة للحد من خلافاتها مع إيرانوالعراق وسورية، كون هذه الدول الثلاث مصادر الهجمات والتخريب السياسي لتركيا. وتخشى تركيا أن تؤدي المخاوف العالمية من برنامج إيران النووي الى جولة جديدة من العقوبات الدولية أو القيام بعمل عسكري ضد إيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى كبح نمو اقتصادها وزعزعة استقرار المنطقة الذي تعتمد تركيا عليه على نحو متزايد. ومع أن الحكومة التركية لا تزال تعارض بشدة انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، إلا أنها تعتقد أن الوسيلة الأمثل لمنع الانتشار المحتمل هي الإقناع، وليس التهديد. كما أنها ترى أن إقامة علاقات أفضل مع جيرانها ستعطيها المزيد من النفوذ في المنطقة ومكانة على الساحة العالمية. وعلى رغم أن أنقرة صاغت استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط حتى الآن على أسس اقتصادية في المقام الأول، إلا أن هذه السياسة تنطوي على طموح للتحرك في اتجاه التقارب السياسي. فالعديد من حكومات الشرق الأوسط التي عادة ما تفضل الحفاظ على علاقات ثنائية قوية مع القوى العظمى البعيدة، مثل فرنسا أو روسيا أو الولاياتالمتحدة أو المملكة المتحدة، تنفتح الآن على تركيا. وحتى إيران أعربت عن اهتمامها ولو نظرياً بهذا الاندماج العملي. كان الإجراء الأول الذي اتخذته تركيا نحو الاندماج الإقليمي هو تخفيف بعض القيود المفروضة على السفر. فقد ألغت تأشيرات الدخول لمواطني الأردنولبنان وليبيا وسورية. أما الإيرانيون فكان بإمكانهم أصلاً الحصول على تأشيرة دخول لدى وصولهم. كما تم افتتاح معبر حدودي جديد بين تركيا وسورية في عام 2009 وفتحت طرق جوية جديدة بين تركيا ومدن في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى تحديث وإعادة فتح خطوط السكك الحديد بين تركيا وسورية والعراق في شباط فبراير الماضي. وستضاف قريباً خدمة القطار السريع بين مدينتي غازي عينتاب في جنوب شرقي تركيا وحلب في شمال سورية، وهما المدينتان اللتان تعتبران مركزين تجاريين مهمين. وقد تم إنجاز خطوط سكك حديد جديدة بين سورية والأردن مؤخراً، ويجري التخطيط لإنجاز المزيد من هذه السكك بين الأردن والسعودية على مسار سكة طريق الحجاز إبان الإمبراطورية العثمانية. ويعمل حزب"العدالة والتنمية"على تطبيع العلاقات مع الأكراد في شمال العراق منذ بضعة سنوات، ويعود ذلك نوعاً ما إلى رغبة تركيا في الوصول إلى حقول الغاز في كردستان العراق. الأمر الذي قد يساعدها على تنويع مصادر طاقتها، بالإضافة إلى تغذية خط أنابيب نابوكو الذي سيصل تركيا بأوروبا الوسطى. ومن المتوقع إكمال مد خط أنابيب غاز منخفض القدرة يمتد من مصر من طريق الأردن إلى سورية وصولاً إلى الحدود التركية قريباً. ويذكر أن تركيا تزود شمال العراق بالطاقة الكهربائية منذ سنوات، وتزود سورية بالطاقة الكهربائية أيضاً منذ عام 2009. وتتم حالياً دراسة خطط لإنشاء شبكة كهرباء تربط سبع دول شرق أوسطية. أما الخلاف الدائر حول بناء تركيا للسدود على نهري دجلة والفرات، فهو يفتح المجال تدريجاً لمناقشة استراتيجيات ري مشتركة. وتتصدر أخبار المنظمات التركية غير الحكومية التي تمول المدارس في المنطقة أو تعمل على كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة عناوين الصحف. وفيما تواصل تركيا تحرير اقتصادها، تقوم الشركات التركية بالانتقال إلى مصر وسورية. فيما تقوم وسائل الإعلام التركية وشركات الترفيه بتأسيس جذورها في أسواق الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك يزداد التنسيق على المستوى الرسمي بين الحكومة التركية وحكومات الشرق الأوسط. ففي عام 2009، قامت تركياوالعراقوالأردنولبنان وسورية بتحويل اجتماعات كبار الوزراء إلى"مجالس تعاون استراتيجي"رفيعة المستوى. كما وافقت هذه الدول في حزيران يونيو على بدء تحويل مناطق التجارة الحرة الثنائية إلى مناطق تجارة حرة متعددة الأطراف. واستثمرت تركيا قدراً كبيراً من رأسمالها الديبلوماسي لزيادة مكانتها في المؤسسات والمنابر المتعددة الأطراف في الشرق الأوسط. وحصلت على مقعد مراقب في جامعة الدول العربية، واستضافت وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في إسطنبول. كما فاز التركي أكمل الدين إحسان أوغلو بقيادة منظمة المؤتمر الإسلامي. وبالإضافة إلى توفير المساعدة المدنية والعسكرية لبعثات حلف شمال الأطلسي في البلقان وأفغانستان، ساهمت تركيا بتقديم السفن وألف جندي ومهندس إلى القوة الموقتة التابعة للأمم المتحدة في لبنان. كما حصلت على مقعد في مجلس الأمن الدولي. لعل الخطر الأكبر يكمن في أن تسيء تركيا فهم الدعم الجديد من جيرانها في الشرق الأوسط وتعتبره بديلاً عن تحالفها الطويل والراسخ مع أوروبا والغرب، لأنه التحالف الأكثر أهمية من حيث التجارة والاستثمار والتفاعل الاجتماعي. وعلى بلدان الشرق الأوسط أن تذكّر أنقرة بأنها تفضلها أن تظل صوتاً متعاطفاً من داخل الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، لا أن تصبح دولة شرق أوسطية محبطة وممنوعة من دخول المجالس الغربية. * مدير برنامج تركيا وقبرص في"مجموعة الأزمات الدولية"