تحولت «الرؤية الاستراتيجية» التي عبّر عنها الرئيس بشار الاسد خلال العام الماضي بربط البحور الاربعة او الخمسة، الى برامج وخطط حكومية للتنفيذ بمشاريع سورية ذات بعد اقليمي. تنطلق «الرؤية» من قراءة للدور الذي لعبته سورية عبر تعاقب الحضارات والموقع الجغرافي المميز لترسم ملامح مستقبل البلاد والمنطقة بالتعاون مع الجوار لتحقيق «تموضع استراتيجي» تكون فيه سورية ممراً ومعبراً بين البحور الأربعة: الخليج العربي، الأبيض المتوسط، قزوين، والأسود، او الخمسة إذا أضفنا البحر الأحمر ولتصبح «عقدة ربط» بين تركيا شمالاً والاردن جنوباً وبين الشرق - العراق والغرب - البحر المتوسط، وأن تعتمد على «جسور» في المحيط الاقليمي لتوسيع شبكة الربط لتصل الى القوقاز شمالاً والى الخليج العربي جنوباً والى إيران شرقاً وأوروبا غرباً. وطرح الرئيس السوري الفكرة للمرة الاولى خلال زيارته تركيا في بداية العام 2004، عندما اعرب امام رجال الاعمال في اسطنبول عن الامل في ان تصبح سورية «عقدة الربط» بين الشرق والغرب وبين تركيا والعالم العربي. كما اكد مسؤولون اتراك ان سورية بوابتهم الى الخليج والعالم العربي، وأن تركيا بوابة سورية الى اوروبا. وأُعيد طرحها في النصف الثاني من العام الماضي خلال زيارات الاسد الى النمسا وسلوفاكيا وأذربيجان وأرمينيا وتركيا واستقباله قادة تركيا واليونان وإيران. وقال لدى افتتاحه مع نظيره التركي عبدالله غل منتدى اقتصادياً في ايار (مايو) العام الماضي: «عندما نفكر في ان هذا الفضاء الاقتصادي سيتكامل، فنحن نربط بين البحر المتوسط وما بين بحر قزوين والبحر الأسود والخليج العربي»، مضيفاً: «نستطيع أن نتكامل في هذا المجال عندما نربط هذه البحور الأربعة ونصبح العقدة الإجبارية لكل هذا العالم في الاستثمار وفي النقل وغيره». كما شدد أمام رجال اعمال سوريين وأذريين في باكو نهاية العام الماضي على «الربط الفيزيائي بين البنية التحتية لدول المنطقة بما يشكل شبكة متكاملة من أنابيب الغاز والسكك الحديد والطرق والمرافئ التي تربط بين البحار الأبيض المتوسط والأسود وقزوين والخليج وحتى البحر الأحمر»، مضيفاً: «بناء على هذا الربط الفيزيائي والعلاقات المميزة بين سورية وكل من تركيا وأذربيجان وإيران والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي، فإن الاتفاقيات الثنائية والمتعددة بتبادل السلع والخدمات وخصوصاً الطاقة أصبحت ممكنة». «الشراكة» السورية - التركية في هذه الرؤية واضحة. وجرى تأسيس مجالس استراتيجية للتعاون بين تركيا وكل من سورية والعراق ولبنان والاردن، في وقت تقوم علاقات ممتازة بين طهرانودمشق وتجتمع لجنة عليا سنوياً بالتناوب بين البلدين. وفيما يمضي قطف ثمار التعاون بين انقرةودمشق ودول عربية اخرى، فإن تصعيد الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي ضد سورية في منتصف العام الماضي، عرقل الزخم السوري - العراقي فلم يتحقق ما كان مأمولاً بالدينامية المرغوب بها. ولا شك في ان الموقف الذي ستتخذه الحكومة العراقية المقبلة من علاقاتها مع دول الجوار، سيترك أثراً كبيراً في هذا المجال والتعاطي السوري - الاقليمي مع بغداد. غير ان تصعيد المالكي، لم يضع العصي كلياً في عجلات هذا التعاون الاستراتيجي الاقليمي، اذ ان الرؤية ماضية في التنفيذ اقليمياً وداخلياً اشواطاً طويلة وإن لم تكن بمستوى الطموح. ودعا نائب الرئيس الايراني محمد رضا رحيمي خلال ترؤسه اجتماعات اللجنة العليا المشتركة في دمشق الى «تطوير العلاقات الاقليمية وإيجاد السبل المناسبة لرفع مستوى العلاقات الرباعية بين ايران وسورية والعراق وترکيا». ولتأكيد عمق التغير الايجابي، قدم الاسد خلال زيارته الاخيرة الى اسطنبول في 8 ايار (مايو) الجاري وصفاً لما تحقق في الفترة الاخيرة. قال: «وإذا نظرنا إلى العلاقة السورية - التركية والسورية - الإيرانية والعلاقة التركية - الإيرانية والعلاقة التركية - الأرمينية والآن العلاقة بين سورية وأذربيجان وأرمينيا لوجدنا أنها تتطور من القوقاز إلى الشرق الأوسط، وتركيا هي الجزء الطبيعي جغرافياً ما بين هاتين المنطقتين، فعليها مسؤولية كبيرة في هذه العلاقة. متأكد أنه خلال عشر سنوات أخرى سنرى خريطة أفضل بكثير من الخريطة الحالية التي نعيش بها». وتتوازى مع الخطوط الاقليمية، ورشة عمل داخلية، على صعيد التشريعات والمشاريع. ويقول نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبدالله الدردري ل «الحياة» ان الخطة الخمسية المقبلة تتضمن اربعة اهداف: «تطوير الادارة العامة، اقتصاد تنافسي، تطوير البنية التحتية، وضمان العدالة الاجتماعية والتنمية الانسانية». ويرى ان هذه المحاور «مرتبطة بعضها ببعض وبالرؤية الاستراتيجية». وقال: «عندما نقول ان سورية تريد لعب هذا الدور، فإنه سينعكس في المحاور. نريد ادارة عامة واقتصاداً تنافسياً وبنى تحتية، ليس لخدمة الاقتصاد وحسب، بل لخدمة الرؤية الاقليمية». عليه، ستنفق الحكومة على البنى التحتية نحو 50 بليون دولار اميركي من اصل اجمالي الاستثمارات العامة والخاصة البالغة نحو مئة بليون دولار. ومن اصل 25 بليوناً من الاستثمارات الحكومية، هناك 25 بليوناً في البنية التحتية. ومن اصل 55 بليوناً من الاستثمارات الخاصة، هناك 25 بليوناً للبنية التحتية وفق مبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وأوضح الدردري ان الحكومة تريد تشييد بنية تحتية بمواصفات اقليمية» من دون ان يعنى التوجه الاقليمي الابتعاد من التوجه الدولي، ذلك ان سورية اتخذت اخيراً عدداً من الخطوات في اطار الاندماج في الاقتصاد العالمي بينها دخولها بصفة مراقب الى «منظمة التجارة العالمية». ويوافق الدردري على القول إن سورية «شريكة» مع تركيا ومع ايران في تنفيذ هذه «الرؤية» وأن الدول الثلاث شاركت في رسم الصورة وتخطيط الرؤية والبحث في مشاريع مشتركة لتنفيذها. وصل «خط الغاز العربي» هناك تراكم إرث وخبرة للإفادة من الموقع الاستراتيجي لإسقاط الرؤية على ارض الواقع في مجالي النفط والغاز. يستند ذلك الى دور سبق أن لعبته سورية عندما اقيم خط لنقل النفط من كركوك العراقية الى بانياس السورية وطرابلس اللبنانية وخط «تابلاين» من السعودية الى مرفأ جنوب مدينة صيدا اللبنانية. وأُعيد تشغيل خط كركوك - بانياس في نهاية التسعينات بطاقة تصل الى 200 الف برميل يومياً الى ان قامت القوات الاميركية بقصفه عشية غزوها العراق في 2003. تبلغ طاقته النظرية نحو 1.2 مليون برميل يومياً، غير ان الطاقة الفعلية تبلغ النصف. ويوضح وزير النفط السوري سفيان علاو في حديث الى «الحياة» ان عوامل الزمن ادت الى «تخريب بعض اجزاء الخط. كما ان احد الخطين في سورية يستخدم حالياً لنقل النفط الوطني المنتج من حقول دير الزور الى المصافي ومرافئ التصدير». وزاد: «لدينا القدرة على ان نمرر في الوضع الراهن من دون أي اجراء او تدعيم لمحطات الضخ نحو 300 الف برميل يومياً في حال جهز القسم الموجود في العراق والممتد من كركوك الى حديثة ومنها الى الحدود السورية». ويجري العراق اتصالات للاتفاق على تقويم وضع الخط داخل اراضيه وإصلاحه. كما كلفت شركة ايطالية إعداد دراسة انشاء خط جديد يمتد من جنوب العراق وحتى حديثة ومنها الى سورية بطول 1350 كيلومتراً لنقل نحو مليوني برميل نفط يومياً، ذلك ضمن خطط لرفع الانتاج والبحث عن مسارات لخطوط ومواقع للتصدير. وقال علاو: «يخطط العراقيون لإقامة مشروع لنقل مليوني برميل يومياً من جنوب العراق الى حديثة وثم الى بانياس ويكون بموازاة الخطوط القائمة حالياً». وتقدر كلفة هذا المشروع بنحو أربعة بلايين يورو. وزاد ان الفكرة «استقرت على ان تكون سورية احد المحاور الرئيسة لتصدير النفط العراقي المتوقع انتاجه مستقبلاً». ويقع هذا ضمن مشاريع العراق لتصدير النفط عبر الخليج او تركيا او سورية او الاردن. ويتحدث العراقيون عن رفع الانتاج الى نحو 12 مليون برميل يومياً، في حين يقدر خبراء ذلك بين ستة وسبعة ملايين برميل ورفعه لاحقاً الى عشرة ملايين. وبلغت ذروة انتاج النفط السوري نحو 600 ألف برميل يومياً في 1996. ثم انخفض تدريجاً الى 380 ألفاً في 2007. وقال علاو: «نسعى حالياً للحفاظ على المعدلات الحالية. وبلغ الانتاج 380 ألفاً في السنوات الثلاث الماضية. ونتوقع ان يترفع الى 385 ألفاً في العام الجاري». وتدرس دمشق اقامة ثلاث مصاف للنفط. تقع الاولى في الفرقلس وسط البلاد بالتعاون مع فنزويلا وإيران لإنتاج 140 الف برميل يومياً بكلفة اربعة بلايين يورور. وتقع الثانية في دير الزور شمال شرقي البلاد بطاقة قدرها مئة الف برميل، وأبدت الصين اهتماماً بها مع احتمال توسيع مصفاة بانياس بكلفة 1.5 بليون دولار. وهناك مشروع لمصفاة ثالثة في دير الزور أيضاً بطاقة 140 الفاً. في موازاة ذلك، بدأ التداول الاولي بموضوع نقل الغاز الايراني والعراقي من جنوب العراق الى سورية ومنها عبر البحر الابيض المتوسط الى اوروبا مروراً بقبرص واليونان وإيطاليا. ويكون ذلك إما بمد انابيب او بالبواخر بعد اقامة محطات تسييل الغاز في الاراضي الساحلية السورية. وقال علاو ان محادثات ثلاثية ايرانية - عراقية - سورية ستجرى ل «وضع الافكار وتكليف شركة متخصصة لإجراء الدراسات وتحويل هذه الفكرة الى عملية قابلة للتحقيق». الفكرة الاولية، هي انشاء خط غاز بقطر لا يقل عن 56 إنشاً يكون قادراً على نقل ما لا يقل عن 100 مليون متر مكعب يومياً، بحيث يمكن ان يستخدم قسم من هذا الغاز محلياً وأن يصدّر قسم منه الى لبنان والى الاردن وقسم بالبحر المتوسط والى اوروبا. وهناك أيضاً، مشروع حقل عكاس العراقي على بعد نحو 40 كيلومتراً من الحدود السورية ومئة كيلومتر من معامل الغاز الرئيسة السورية في دير الزور شمال شرقي البلاد. ويقدر احتياطي عكاس بين 100 بليون متر مكعب. ويقول علاو: «سبق ان اتفقنا مع الجانب العراقي على البدء بالافادة منها وتمديد انبوب لنقل كمية محدودة جاهزة من هذا الغاز، لكن التنفيذ تأخر ولا نزال نأمل ان يكون هناك تعاون مجد اقتصادياً للبلدين بنقل هذا الغاز الى المعامل السورية ومعالجته مع امكانية افادة العراق منه بعد المعالجة او تصديره عبر سورية». وما يشجع على هذا المشروع ايضاً انخفاض كلفة النقل نتيجة قربه من الحدود وتوافر معامل الغاز. ويقول علاو ان الامر «في حاجة الى تعاون واتفاق»، معتبراً ان ربط شبكتي الغاز في سورية والعراق سيشكل فائدة للبلدين و «أبدينا كل تعاون وكل ترحيب ونقدم كل التسهيلات الممكنة للتعاون مع العراق في هذا المجال ومع ايران عبر العراق». كان هدف خط الغاز العربي، الذي يبلغ طوله 1200 كيلومتر، نقل الغاز المصري الى الاردن ثم سورية ولبنان وتركيا وصولاً الى اوروبا. ورأى علاو ان «من المشاريع العربية الناجحة، ما نفذ في الاراضي المصرية والاردنية ومن الحدود الاردنية وحتى منطقة الريان في مدينة حمص» في وسط البلاد. كما مد الخط من حمص الى حدود لبنان ثم الى محطة البداوي، وبقي القسم من حلب وحتى الحدود مع تركيا، حيث تقوم شركة تشيكية بمده حالياً بطول نحو 62 كيلومتراً. ومن المتوقع ان يبادر الجانب التركي الى تنفيذ الجزء المتبقي على اراضيه البالغ طوله نحو 90 كيلومتراً. وتبلغ طاقة الخط نحو عشرة بلايين متر مكعب سنوياً، اي نحو 30 مليون متر مكعب يومياً. وينقل الخط حالياً كمية من مصر الى الاردن الذي يستهلك حوالى عشرة ملايين متر يومياً وينقل الى سورية ولبنان ثلاثة ملايين متر مكعب يومياً. ويستهلك لبنان حوالى مليون متر مكعب. بعد قيام الجانب التركي باستكمال الخط، سيربط الخط العربي بالشبكة التركية. وفي حال ربط حقل عكاس بالشبكة السورية، ستتكون شبكة تضم شبكات سورية والعراق وتركيا والمشروع العربي. وفي هذا المجال، تبحث الحكومة السورية مع اذربيجان لنقل نحو بليون متر مكعب يومياً الى سورية عبر تركيا، اضافة الى مفاوضات لنقل غاز ايراني عبرها. وقال علاو: «ان مشروع نقل الغاز من ايران ومن جنوب العراق الى سورية والبحر المتوسط هو مشروع طويل الامد. والبحث جار حالياً لنقل غاز من ايران وأذربيجان عبر تركيا». ورأى ان «الاشكالية في انه ليس لدينا الآن خط مباشر مع اذربيجان وإيران او روسيا. ومشاريع الربط تعتمد على مدى امكانيات الجانب التركي». ونولي اهتماماً كبيراً لانتاج الغاز بحيث نخطط لانتاج ما لا يقل عن 160 بليون متر مكعب من الغاز النظيف المعد للاستهلاك حتى العام 2025، وهذا يعادل بليون برميل من النفط المكافئ. وبعد انجاز معملي معالجة الغاز في منطقة الفرقلس (جنوب المنطقة الوسطى) ومعمل غاز ايبلا اللذين دشنهما الرئيس الاسد، ارتفع انتاج الغاز السوري الى 28 مليون متر مكعب يومياً وسيرتفع في نهاية العام بعد ادخال معمل غاز حيان الى 32 مليوناً على ان يرتفع الى 36 مليوناً بعد انجاز مشروع غاز شمال المنطقة الوسطى.