عبدالعزيز الدوري اسم يحمل في ثناياه رموز الإبداع والتميز لتأصيل فكري تاريخي متجدد. وربما كان تساؤل أستاذنا الدائم"هل فهمنا التاريخ"منطلقاً مناسباً للإشارة الى رمز من رموز الإبداع لديه، باتجاهه لدراسة التاريخ الاقتصادي لفهم التاريخ وتفسير أحداثه. فقد أدرك الدوري مبكراً أهمية الاقتصاد في تكوين المجتمعات وتطورها، وانطلق من هذه النظرة فقدم دراساته في هذا المجال، يأتي في طليعتها كتابه"تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري"عام 1948 وسجل فيه ريادة في موضوعه. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ سجل ريادة أخرى في فهمه للتاريخ الاقتصادي، تجاوز فيها دراسة الحوادث الى ملاحظة التيارات والاتجاهات، سواء كانت ظاهرة أم خفية، كان لها تأثيرها في فهم طبيعة المجتمع وتطوره تبعاً للظروف، وقد عززتها كثيراً نظرته الشاملة لأحداث التاريخ المنطلقة من قناعاته بأنه"لا للتبدل الفجائي، ولا للانقطاع في سلسلة التطور"كما عززها فهمه للمصادر ومعرفته بأساليبها. يغطي كتاب"تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري"مجمل الحياة الاقتصادية في العراق خلال فترة القرن الثالث وحتى القرن الخامس للهجرة/ 00 9 - 1100 م، وقد تناولها الدوري بالوصف والتحليل ضمن حقول الاقتصاد الأساسية، وكل الموضوعات المتعلقة بالتاريخ الاقتصادي ومفاهيمه في نطاق كل حقل منها. وبعد، لا بد من أن نقر بأن دراسة الدوري، قدمت إطاراً عاماً للدراسات التاريخية الاقتصادية، وهذا بدوره شكّل حافزاً للعناية بالتاريخ الاقتصادي للمجتمعات الإسلامية، فظهرت دراسات في هذا الاتجاه، وإن كانت قليلة، إلا أنها ذات أثر في التنبيه الى دور الاقتصاد في تغيير أوضاع المجتمعات. وتتابعت دراسات الدوري في هذا الاتجاه فكان لكتابه"مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي"، 1982 بُعد خاص في حقل الدراسات التاريخية الاقتصادية، نظراً الى ندرة الدراسات الشاملة في الحقول الاقتصادية المختلفة. وتعطي هذه الدراسة خلاصة تحليلية شاملة للتاريخ الاقتصادي العربي عبر اثني عشر قرناً، من القرن السابع الى القرن التاسع عشر الميلادي، أي من بداية الدعوة الإسلامية ثم الخلافة وحتى نهاية العهد العثماني، سماها الدوري"مقدمة في التاريخ الاقتصادي"، للفت النظر على ما يبدو الى النواحي الاقتصادية، وإلى أهميتها في التطور التاريخي، وأثرها في إدراك التيارات الاجتماعية المختلفة. والملاحظ أن الشمولية في هذه الدراسة، التي أكدت الصلة بين الأحداث التاريخية، على اعتبار أن التاريخ حركة متصلة جاءت متناغمة مع تطور المجتمع العربي وتجاربه، ما ييسر معرفة أصول الأحداث وجذورها وتتبع تطورها. لقد تفرّد الدوري بهذه الدراسة التحليلية للمجتمع العربي، فكشف عن الجذور، ليفهم تطور المجتمع وتجاربه، وأعطى اهتماماً واضحاً بالضرائب، تناول الجانب التاريخي، أو نواحي منه، كما تناول الجانب الفقهي للموضوع، ضمنها مؤلفاته في التاريخ الاقتصادي والنظم والتاريخ السياسي. واستمر اهتمامه بهذا الجانب، فظهرت له دراسات أخرى هي في الواقع مجموعة من المقالات، ضمّنها إضافة للمعلومات الدقيقة، نتائج دراساته الطويلة عن الضرائب في الأمصار الإسلامية، فأشار في مقاله"نظام الضرائب في خراسان في صدر الإسلام، 1964"الى تنظيم الضرائب في خراسان. وقدم في مقاله"نظام الضرائب في صدر الإسلام ملاحظات وتقييم، 1974"صورة نقدية عن وضع الضرائب في الشام والجزيرة. كما أفرد في مقاله"التنظيمات المالية لعمر بن الخطاب السواد والجزيرة"، 1985 الإجراءات والتنظيمات الضريبية في السواد والجزيرة. وهو من المقالات التي أعاد النظر فيها بضوء ما تيسر له من مصادر جديدة. وتميز مقاله عن"تنظيمات عمر بن الخطاب، الضرائب في بلاد الشام"، 1987 بأمرين أولهما ما تضمنه من معلومات عن أوضاع الضرائب البيزنطية في بلاد الشام. وثانيهما أنه أشير في هذا المقال، وللمرة الأولى الى وثائق برديات"نصّانا"ومعلوماتها من طرق الجباية أيام الفتح العربي، فكانت تلك الدراسة من أولى الدراسات التي تنبهت لأهمية تلك الوثائق في الموضوع. الى جانب ذلك جاءت مقالاته الأخرى بتخصيص الحديث عن جانب أو أكثر من جوانب التاريخ الاقتصادي كالزراعة والتجارة والصناعة، وإن كان موضوع الأرض قد نقل قدراً من اهتمام الدوري لدلالته التاريخية. فكان مقاله عن"نشأة الإقطاع في المجتمعات الإسلامية"1970، ومقاله عن"العرب والأرض في بلاد الشام في صدر الإسلام"1974، ومقاله عن"التنظيم الاقتصادي في صدر الإسلام"1981، ومقاله عن"دور الوقف في التنمية"1997. والملاحظ أن أغلب هذه المقالات كانت عن فترة صدر الإسلام، وهي فترة بالغة الأهمية باعتبارها فترة التكوين الحضاري الأولى للفكر والمؤسسات والحياة العامة، وبالتالي فهي فترة التكوين أيضاً لملكية الأراضي أو استغلالها، تساعد في فهم المجتمع وبيان خطوطه الرئيسة المميزة له. إن ما تقدم هو جهد فردي أبدع فيه الدوري في دراسته للاتجاهات والتيارات في التاريخ الاقتصادي. ويجدر التنويه هنا الى مشروع الفهارس التحليلية للاقتصاد الإسلامي الذي اشرف عليه، وأسهم بحق في نشر المعلومات الاقتصادية المتضمنة في أمهات المصادر والمراجع والوثائق، فكانت محصلة هذا الجهد إنجاز ما اصطلح على تسميته بالفهارس التحليلية للاقتصاد الإسلامي، وفقاً للمصادر، صدر منها خمسة وعشرون جزءاً ابتداء. وإنجاز الفهارس التحليلية للاقتصاد الإسلامي وفقاً للموضوعات، صدر منها خمسة وعشرون جزءاً أيضاً،إضافة الى خمسة أجزاء من الجامع لنصوص الاقتصاد الإسلامي الذي جاء مجمعاً ومرتباً على أبواب الموضوعات الاقتصادية المختلفة، وبحسب حروف الهجاء. وكل ما سبق يدل على سعة أفقه في التاريخ الاقتصادي، وتفرده ،الى آراء جديدة فيه تجعل منه عِلماً قائماً بذاته. * رئيسة قسم التاريخ في الجامعة الأردنية