قُيض لفقيدنا الراحل الدكتور عبدالعزيز الدوري أن يتلقى تدريباً متقدماً في منهجية البحث التاريخي على ضوء احدث ما وصلت اليه الكتابة التاريخية في أربعينات القرن الماضي في أوروبا وجاء ذلك على يد نخبة من شيوخ الاستشراق في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS التابعة لجامعة لندن، حيث أعد رسالته للدكتوراه عن تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع للهجرة، التي أصبحت في ما بعد من المراجع المشهورة التي يشار اليها بالبنان في عالم البحث في التاريخ الاقتصادي. ونشرت الترجمة العربية لهذه الرسالة أكثر من مرة، فأرسى بذلك منهجاً جديداً للباحثين في هذا الموضوع من العرب وغيرهم على حد سواء. وبعد عودته الى بغداد عام 1942 أطر لعمله هذا تاريخياً عندما أصدر فيها كتابيه: «العصر العباسي الأول» و «دراسات في العصور العباسية المتأخرة»، في 1942 و1945. وتابع الدكتور الدوري بعد ذلك الاهتمام بتاريخ النظم الإسلامية من خلافة ووزارة ودواوين وضرائب، وصدر له كتاب بهذا الخصوص في بغداد عام 1950، ثم انصرف لدراسة عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ووضع مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، وجاءت بعد ذلك أعماله الكبرى، مثل بث في نشأة علم التاريخ عند العرب، الذي كان نقلة نوعية في تعريفنا بالمدارس التاريخية عند العرب بدءاً بالإخبارين وصولاً الى مؤرخي العمران من أمثال المسعودي ومسكويه وغيرهم، ويمكن القول بهذا الخصوص ان كتابه المعنون ب: «مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي»، كان عوداً على بدء يذكرنا بما قام به المؤرخ الاقتصادي شارل عيساوي رحمه الله. بقي هاجس الأمة العربية يؤرق الدوري المعروف بالتزامه القومي الشديد فبحث ونشر عن الجذور التاريخية للقومية تاريخاً ومستقبلاً، والجذور التاريخية للشعوبية. ولقي كتابُهُ المعروفُ بعنوان «التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي» التقدير الكبير. وأسهم الدوري بالتأريخ لجوانب أخرى مهمة مثل تاريخ الأصناف والحرف والأسواق والعملة والتجارة وما الى ذلك من خلال دراساتٍ علميةٍ جادةٍ نشرها في دورياتٍ علميةٍ متخصصةٍ قامت «دار الغرب الإسلامي» في بيروت أخيراً بجمعها ونشرها في أربعة مجلدات، كما ان اسهاماته في كتابة الكثير من المقالات في الطبعة الجديدة من الموسوعة الإسلامية تشهد على غزارة علمه وتقدير الهيئات العلمية الدولية له. ومن حسن الحظ جاءت مبادرة «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت بجمع جميع مؤلفاته وإعادة نشرها خدمة للباحثين للاطلاع المتكامل على انتاج هذا العالم الموسوعي. من المعلوم ان الدوري كان قبل دعوة الجامعة الأردنية ليكون عضواً في قسم التاريخ في كلية الآداب في العام الدراسي 1969 و1970 في عهد رئاسة الدكتور عبدالكريم خليفة للجامعة، ونتيجة لجهوده الجادة ارتقت كتابة التاريخ في الأردن على يد المجموعة الكبيرة من الطلاب الذين واظبوا على حضور ندوته العلمية الأسبوعية، أضف الى ذلك فضله على عشرات الطلاب الذين أعدوا رسائلهم للماجستير أو الدكتوراه تحت اشرافه. وأتفحص عناوين الرسائل التي تحتفظ بها مكتبة الجامعة الأردنية فأجد أنها تغطي مختلف المواضيع السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية من تاريخ الأمة العربية من المشرق الإسلامي على المغرب العربي، وركز عدد من أصحاب هذه الرسائل على تناول المنهجية التاريخية لعدد من كبار المؤرخين العرب الأوائل. وامتدت شمائله العلمية لتشمل مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه في بقية الجامعات الأردنية وفي جامعتي دمشق والكويت، هذا إضافة الى إبداء رأيه في الانتاج العلمي لعشرات الأساتذة في الجامعات العربية، فقيم هذا الانتاج بمنهجية علمية دقيقة من أجل الحفاظ على المستوى والسوية للمؤرخين العرب، ومثل هذا التدقيق كان يمارسه عند تقييم البحوث التي كانت تصله من المجلات التاريخية المتخصصة وتحال اليه لبيان الرأي فيها لما عُرف عنه من الموضوعية والدقة والشمولية. ولا بد من أن اشير هنا الى دوره المعطاء في تأسيس مركز الوثائق والمخطوطات في الجامعة الأردنية وفي إثراء لجنة تاريخ بلاد الشام بأفكاره وآرائه منذ قيامها عام 1972م الى ان توفي رحمه الله، ولعب مثل هذا الدور المتميز في وضع التشريعات للبحث العلمي والدراسات العليا في الجامعات الأردنية وغيرها من الجامعات العربية التي كانت تطلب رأيه ومشورته. ومن حسن الحظ فإن الدكتور الدوري على رغم اعتماد المؤسسات الجامعية في الأردن على علمه وسخائه في العطاء لم يقبل أن يتولى أي عمل إداري بل انصرف على مدار أربعين عاماً 1969 - 2010، الى البحث والتحقيق والإشراف على الطلاب والمساهمة في بناء المؤسسات العلمية في الوطن العربي مثل جامعة آل البيت بالأردن حيث كان عضواً في مجلس أمنائها، وكذلك مساهمته الكبيرة في تأسيس مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي في عمان، حيث أدار مشروعاً بحثياً ضخماً عن التربية في الإسلام، واستكمل مشروعه الأول الذي بدأه عندما كان طالباً بجامعة لندن، فأصدر مع فريق من طلابه أربعة مجلدات بعنوان: الجامع لنصوص الاقتصاد الإسلامي، حيث تم مسح كتب الحديث النبوي الشريف وكتب الفقه والخراج والتاريخ والجغرافيا والرحلات والفتاوى والدراسات الحديثة والمعاصرة للبحث عن كل ما له علاقة بالاقتصاد والمال والتجارة في التاريخ الإسلامي، فوفر بذلك للباحثين مادة مستقاة من أصولها وبذلك يكون قد بنى مدماكاً جديداً في عمارة تاريخ الاقتصاد عند المسلمين وشمل في هذا العمل دور الأقليات التي عاشت ضمن اطار المجتمع الإسلامي. * رئيس لجنة تاريخ بلاد الشام في الأردن، وأحد كبار أساتذة التاريخ العثماني