يسير المجتمع العراقي منذ أربعة عقود تقريباً على طريق الآلام من دون أفق للتغيير نحو الأفضل. وعلى رغم النمو الاقتصادي السريع في السبعينات الذي ترتب على المعدلات المرتفعة آنذاك للاستثمار بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، أهدرت الحماقات السياسية المفضية إلى حروب مدمرة مع الجيران، الموارد البشرية والمادية إهداراً فاضحاً. يشكل احتياط العراق المقدر بنحو 37 بليون دولار عام 1979، علامة فارقة لتدهور العراق في ما بعد، فبحلول عام 2004، كان العراق مديناً للعالم الخارجي بأكثر من 125 بليون دولار. وخلال طريق الآلام الأول هذا، تحول النسق المجتمعي السائد من تحقيق مزيد من الرفاهية الاقتصادية والاندماج المجتمعي أواخر السبعينات، ولو في ظل دكتاتورية عاتية، إلى المكافحة من أجل الحفاظ على ديمومة الحياة في ظل تراكم الديون وانخفاض صادرات النفط. وجاءت حقبة الحروب لتمزق التكوينات الاجتماعية والأسرية بنكباتها المتلاحقة عبر القمع والتشريد. وفقد العراق خيرة مهندسيه وأطبائه، قتلاً أو تهجيراً. وتسارع تدهور القدرات الفنية العراقية بعد غزو الكويت، إذ أدى الحظر الدولي إلى انهيار القوة الشرائية للدينار بعد طبع النظام السابق النقود حلاًّ لأزمته المالية، ما أوجد فروقاً هائلة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف الحقيقي في السوق الموازية. وخلال التسعينات المأزومة بالتضخم والبطالة المتزايدة ودولرة الاقتصاد، انهارت مستويات المعيشة، وهاجر آلاف الفنيين بحثاً عن حياة كريمة خارج الوطن المنكوب بالحروب والقمع والفقر والتضخم الجامح. وبعدما أدى التضخم إلى انهيار بالغ في مستويات المعيشة، تفاقم النطاق الاجتماعي للفقر بتدهور المداخيل الحقيقية لقطاعات واسعة من الطبقة الوسطى التي ضمت أفضل الفئات المهنية والفنية، والتي سبق لها ان شهدت بعض الرفاهية قبل سنوات. وجاء الاحتلال عام 2003 بتغيير هائل، فمن جهة، انهارت المركزية القامعة لتحل محلها فوضى إدارية وبطالة وعنف أهلي يمزق اللحمة المجتمعية من دون ان يفلح في الحد من هيمنة الاحتلال على مقدرات البلد. وفي طريق الآلام الثاني هذا توقفت عجلة الإعمار في ظل بطالة هائلة وفقر ملحوظين، ما ساهم في دفع السياسة المالية إلى امتصاص البطالة عبر توسع غير مبرر في التوظيف الحكومي المنخفض المردود ان لم يكن سالبه. ومرة أخرى، دخل البنيان الاقتصادي في دورة جديدة من امتصاص البطالة عبر تضخيم أجهزة الدولة بتوظيف هادر لعائدات النفط وممتص للفائض الاقتصادي الكامن الذي يولده الريع النفطي للبلاد. وبهذا امتص الإنفاق الاستهلاكي للدولة الجزء الأعظم من هذا الريع عوضاً عن تخصيصه لتنمية النشاطات الاقتصادية الأكثر وعداً في القطاعين العام والخاص. ولما كان حجم الريع النفطي غير كاف لامتصاص العاطلين عن العمل جميعاً، تحوّلت الحلقة المفرغة للفقر والبطالة إلى عنف واضطراب اجتماعيَّين حَجَّمَا قدرات القطاعين العام والخاص على الإعمار. وطرد العنف كثيراً من المهارات التي بقيت في العراق ليتكرس الفقر مرة أخرى من خلال تعزيز المفعول السلبي لحلقته المفرغة الآنفة الذكر. واستمر السير على طريق الآلام حقبة مضنية أخرى، فتداخلات العنف والبطالة والفقر والتخلف الاقتصادي ولّدت دورات متعاقبة من العنف والبطالة والفقر. وتمكن العنف من إبطاء عملية إعادة الإعمار، إذ زاد انعدام الاستقرار. وفي ظل فوضى انعدام الاستقرار هذه، تتعرقل إعادة بناء المؤسسات بناءً تنموياً سليماً، خصوصاً في ظل الافتقار إلى رؤى تنموية بعيدة الأجل. ويتضح هذا الأمر في شكل أكبر من خلال لجوء الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003 إلى سياسات مالية توسعية تعتمد على التوظيف غير المنتج والخالي من أي أفق تنموي لتخصيصاتها المالية. وأدى هذا التوجه إلى تعزيز النزعة الاستهلاكية على مستوى الاقتصاد الكلي وعلى حساب الميل إلى الاستثمار. تتطلب التنمية المنشودة اتباع سياسة مالية مختلفة في شكل حاسم عن توجهاتها منذ الاحتلال، فالمطلوب تخصيص حصة كبيرة ومتصاعدة سنوياً من عائدات البترول للاستثمار ولتطوير القدرات الفنية المرتبطة به في القطاعات الأهم وفي المحافظات كلها، بدلاً من تخصيصها، كما حدث لتنمية التوظيف غير المجدي بجهاز بيروقراطي متضخم أصلاً. لكن هذه السياسة المالية التوسعية حققت من جهة أخرى انتعاشاً في الطلب المحلي، إذ تسربت نسبة غير قليلة من الإنفاق الحكومي إلى القطاع التجاري المستورد فتوسعت نشاطاته مع نمو الإنفاق الاستهلاكي الحكومي. وتوسعت أيضاً مداخيل الشرائح الريعية من البيروقراطية وفي شكل ملحوظ ليزداد الإقبال على الوظيفة الحكومية بالنسق الريعي ذاته لكثير من الدول النفطية، غير ان العراق مجتمع كبير بحجمه النسبي للسكان، ولن يقود توجه كهذا الاقتصادَ العراقي إلا إلى هدر مالي وبشري متوسع وخال من أي جدوى أو استدامة. وفي ظل التوجه إلى تشكيل حكومة جديدة، يجب مراجعة السياسات المالية الهادرة لعائدات البترول قبل السعي الحثيث الملاحظ إلى زيادتها المستند على فرضية مضللة مفادها ان ضخ كثير من الأموال في الاقتصاد المدمر والمأزوم بنيوياً سيختزل طريق الخروج من نفق الحلقة المفرغة للفقر والعنف والبطالة وزمنه المطلوب. هنا سيكون مفيداًَ للحكومة العتيدة القيام بجملة مراجعات لسياساتها في القطاعات المختلفة باتجاه تطوير جذري لكفاءة الإنفاق الحكومي. وتكفي الإشارة هنا إلى تصريحات لوزير التخطيط علي بابان بأن نحو 70 في المئة من موظفي الدولة"من دون عمل حقيقي ومن دون إنتاج حقيقي"، أي فائضين عن الحاجة. من أهم الإصلاحات المطلوبة سرعة مراجعة المؤشرات الأساسية لتخصيص الموارد ضمن الموازنة العامة لعام 2011 فما بعد لصالح تعزيز الاستثمار والقدرات الاستثمارية للقطاعين العام والخاص. ومن دون ذلك الإصلاح وإصلاحات أخرى مطلوبة لمكافحة الفساد بشكل أكثر فاعلية، سيستمر هدر عائدات البترول عبر تعزيز مكانة الوظيفة الحكومية على حساب العمل المنتج في القطاعين الزراعي والصناعي، وستتكرس بهذا المسار المضخم للأجهزة البيروقراطية السمة السلبية التي صارت غالبة على الهيكل الاقتصادي العراقي، الذي يتحول إلى أكثر اقتصادات النفط ريعية وأقلها تنويعاً. * مستشار سابق للتخطيط التنموي في الأمم?المتحدة