لم تكن حادثة الضاحية والتي شهدتها إحدى العيادات النسائية حادثة عابرة، يستطيع المرء أن يمر عليها مرور الكرام. فالتداعيات السياسية والمواقف التي انهالت بعد الحادثة تعكس تضخُّم الأزمة المتعلقة بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان على كل الأصعدة المحلية، الإقليمية والدولية. وإن كانت حادثة الضاحية، في دلالاتها السياسية، تعني ان"حزب الله"مستمر في تصعيد حملته على المحكمة، فقد أرسلت أيضاً إشارات أخرى مفادها أن الحزب مستعد للجوء الى العنف، ولو لم يتخطَّ الاعتداء الجسدي على المحققين"المناوشات"التي لا تنم عن أذى كبير، بمقدار ما يستطاع قراءته على انه تحذير، تماماً كالتلويح باستعمال السلاح لإثارة حال من الذعر في الداخل. ووراء مشهد الضاحية، تظهر الصورة التقليدية او صورة"الماضي"للرجل العربي التي يشتهيها الشارع ويرغب فيها بشدة، وصورة"الأنثى"التي هي بحاجة الى الحماية و"المعتدى عليها"والباحثة عن منقذ. وفي مقاربة مشابهة، يعكس تعلّق الشارع العربي بمسلسل"باب الحارة"الذي عرض على أجزاء خلال رمضان في سنوات متتالية عبر محطات منها محطة المنار التابعة لحزب الله وأظهر مدى توق العرب الى هذه الصورة النمطية للشهامة والاندفاع. فالشارع برمته يرغب في أن يظهر في صورة الفارس المندفع لحماية المرأة. وقد حاكى مشهد الضاحية الصورة النموذجية للرجل العربي الشهم والأصيل الذي قد يقتل ويدمر في حال اقترب احدهم من أميرته. هذه الصورة تغذي عقل الرجل من جهة، فهو أمام فرصة ذهبية لالتقاط أحلام فروسيته ولو اكتفى فقط بالتنديد بالحادثة، فما بالك إن كان في حال تأهب للانقضاض على المعتدين الذين ليسوا كذلك فعلياً. ومن جهة اخرى، لا تسلم النساء من المشهد الذي يصلح لأن يكون سينمائياً بكل حيثياته الدرامية. فالحزب الآن، برجاله، سينبري لحمايتها وسيظهر رجاله، في مخيلة النساء من حيث لا يدرون، فرساناً شجعان على أحصنة بيض وسينقذونهن من براثن المحكمة الدولية والمحققين الدوليين. العقل العشائري مهما كانت خبرة الطبيبة ايمان شرارة واسعة، ومهما كانت قدراتها المهنية بالغة الاهمية، فهي بالتأكيد، واستناداً الى المنطق، لن تستطيع ان تعالج دفعة واحدة ذاك الكمّ الهائل من النساء اللواتي اندفعن لمواجهة المحققين. معروف ان المجتمعات بصيغتها التي يشتهيها الحزب، قائمة على المجموعة وليس الفرد. وتعزيز هذا التفكير لا يؤثر فيه تواجد أربع أو خمس نساء في عيادة، كما الحال الطبيعية المتعارف عليها، انما يحتاج الى عدد اكبر ليس فقط بقصد الاعتداء على المحققين الدوليين، بل لإبراز الحادثة بحجم مبالغ فيه، واسترضاء الشارع اللبناني الذي يغوص في المغالاة وتضخيم الأمور. أي أن"حزب الله"لن يتمكن من إحداث الضجة المطلوبة ان كانت المواجهة فردية بين الطبيبة والمحققين على سبيل المثال، بينما وجود"مجموعة"من النساء يعزز اهمية الحادث، ويثبت للخارج والداخل بطريقة غير مباشرة مدى تلاحم الحزب بكل فئاته الشبابية، النسوية وحتى الأطفال، تماماً كما تتكاتف العشائر في مواجهة خطر قد يدهمها او مجموعة مضادة. ومن يحاول استعادة المشهد النسوي للحزب الذي لا تغيب النساء عن تظاهراته، فلا بد أن يتذكر"الهجمات النسائية"في حادثة منطقة الرمل العالي بعد حرب تموز يوليو 2006 والتي أسفرت عن سقوط طفلين وعدد من الجرحى نتيجة إطلاق نار خلال إزالة مخالفات بناء. ووضعت النساء ايضاً في ذلك الوقت في مواجهة مع عناصر القوى الأمنية لمنعها من إزالة المخالفات. ولكن، فيما يدين"حزب الله"أخلاقياً انتهاك المحققين الدوليين عيادةَ نسائية بما في ذلك من"هتك للأعراض"و"مسّ بالشرف"، لم تتوانَ نساؤه عن سرقة وثائق وهاتف للمحققين الدوليين. واذا كان القصد مما حدث وايضاً من موقف الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، ودعوته الصريحة اللبنانيين الى عدم التعاون مع المحققين الدوليين ومقاطعة المحكمة كرد فعل على"استباحة"المجتمع الدولي للعيادة، فكيف يفسر التعدي على ممتلكات هؤلاء المحققين؟ هل هو دفاع عن النفس ايضاً؟ الهيئات النسائية واضح أن اسرائيل مدركة جيداً مدى فاعلية القطاع النسائي في"حزب الله". ففي تحقيق نشرته صحيفة"هآرتس"الإسرائيلية بعد حرب تموز، كتب تسافي بارئيل:"إذا كان الرجال يشكلون النواة المقاتلة لحزب الله، فإن النساء يشكلن الداخل الاجتماعي الذي يضمن استمرار وجود الحزب كحركة اجتماعية. فبواسطتهن يستطيع الحزب الوصول إلى أحياء كاملة، وأن يشغل مؤسسات العمل الاجتماعي والصحي والتربوي التابعة له. وإذا كان وجود النساء في الكثير من الأحزاب والحركات الدينية هامشياً، فإن النساء في"حزب الله"عنصر حيوي لاستمرار حياته". وعلى رغم أن"حزب الله"لم يسمح للنساء فيه بالمشاركة في العمل العسكري، فقد شاركن في الخطوط الخلفية للمقاومة، وتولين عمليات"الرصد"لتحرك العدو ونقل السلاح والمعلومات للمقاومين. وتنظر قيادة الحزب إلى عمل الهيئات النسائية بكثير من التقدير، ويؤكد السيد حسن نصرالله أن المرأة حاضرة في مسيرة الحزب في كل شيء، وتتحمل مسؤولية كبيرة في رعاية أسر الشهداء والجرحى والفقراء،"بل إن 80 في المئة من اللجان المشكلة لرعاية هذه الجوانب هي نسائية". الرجال داخل"حزب الله"هم النواة المقاتلة، بينما تشكل النساء الداخل الاجتماعي الذي يضمن استمرار وجود الحزب كحركة اجتماعية. ويتوزع العمل في الهيئات النسائية للحزب على 3 أقسام هي: القسم الثقافي، وقسم الشؤون الاجتماعية والعلاقات العامة، والقسم الإعلامي. أما على الصعيد التنظيمي فتنخرط نساء"حزب الله"في إطار"الهيئات النسائية"، وينتشرن في كل أماكن انتشار الحزب، إضافة إلى مشاركتهن في معظم مؤسسات الحزب الاجتماعية والتربوية والثقافية والإعلامية. ويركز الحزب أيضاً على أمهات الشهداء والجرحى وأخواتهم وأسرهم، نظراً إلى دورهن الكبير في إعداد المقاومين ورعايتهم أو رعاية أسرهم بعد استشهادهم أو إصابتهم. كما أدى العديد من النساء في"حزب الله"دوراً فاعلاً في العمل المقاوم، واعتقل العشرات منهن بتهمة نقل الأسلحة أو المعلومات للمقاومين. نموذج المرأة في الحزب في التفكير الجهادي ل"حزب الله"، وهو ما يشبه كثيراً"النسخة الشيعية"للمفهوم الإسلامي السلفي والأصولي وان اختلفت الحيثيات والأبعاد، للمرأة دوماً دور أساسي، يكاد أن يكون مقدساً في الحزب. ففي زمن الصحابة، كانت المرأة المسلمة تنزل الى ميدان الجهاد وتقاتل وتتأهب لذلك وتعد العدة. وأبرز مثال الخنساء التي كانت تدفع أبناءها الى الجهاد. اللباس المعين الذي حاول"حزب الله"تعميمه على مناصريه كان إحدى المحاولات لإبراز دور المرأة في الحزب وتطويعها بما يتناسب مع المبادئ التي يحاول فرضها، والعودة الى زمن قد لا ينطبق مع حاضرنا ومع النهضة العالمية نحو مواكبة العولمة والتطور. والعصب الذي حاول الحزب استفزازه عبر الحالة النسوية التي أوجدها هو عصب غرائزي من جهة، لكنه يعكس من جهة اخرى تأهب النساء المناصرات للحزب والمَعدَّات جيداً للتماشي مع مخططاته. وضع"حزب الله"هذه المرة المرأة في"فوهة المدفع"، وفي مواجهة مع المحققين الدوليين، لكنه لم ينتشلها من الموقع الخلفي وسحب الدكتورة إيمان شرارة من التداول وأخذ السيد حسن نصرالله الصدارة، كي تكتمل صورة المرأة - الضحية والرجل - المنقذ، مع العلم ان المجتمعات العربية لن تتمكن من الانعتاق والتطور والرقي الا اذا تخلت عن الصورة الخلفية للمرأة - التابع التي ليس ضمن صلاحياتها اتخاذ القرار انما ترقبه والتماشي معه. عمل"حزب الله"على اكثر المواضيع حساسية، واستفز الشارع بصورة"الشرف الشرقي المهدور"، وحاكى العقل العربي الذي يتقبل الإشاعات ولا يحاكي المنطق. ولا بد من طرح مجموعة من الأسئلة: هل تبنى"حزب الله"قضية المرأة وانكفأ عن قضية التحرير؟ الى اي مدى يتأثر اللبنانيون والعرب بهذه الحوادث؟ وهل يتأثرون فعلاً ام ان الاطراف السياسية تحاول استغلال المشهد الأخير، والتلطي وراء ستار"هتك العرض"لاستدراج العواطف الإنسانية، وتعزيز الاصطفاف المذهبي والعشائري الطاغي في لبنان؟