يخوض"حزب الله"بشراسة فائقة، معركة إسقاط المحكمة الدولية التي تنظر في جريمة اغتيال الرئيس اللبناني الشهيد رفيق الحريري، مستنداً إلى سلاحه ومؤازرة حلفائه في المعارضة ودعم بعض القوى الإقليمة النافذة، ومستخدماً أساليب الترهيب، ضد القوى السياسية اللبنانية المؤيدة للمحكمة، التي تتوقع منها كشف الحقيقة وتحقيق العدالة وإنقاذ لبنان من مسلسل الاغتيالات السياسية. وكان"حزب الله"، منذ اغتيال الحريري في 14 شباط فبراير 2005، من معارضي التحقيق الدولي وإنشاء المحكمة الدولية. لكنه ما لبث أن وافق على المحكمة، في مؤتمر الحوار الوطني في أيار مايو 2006. وعاد، بعد عدوان تموز يوليو 2006، إلى التنصل من موافقته بذرائع عدة، منها: رفض الرئيس فؤاد السنيورة إعطاء وزراء المعارضة الوقت اللازم لدراسة نظام المحكمة، وإقراره في غياب وزراء الطائفة الشيعية، ما يجعله، في نظر الحزب، غير دستوري، نتيجة فقدان الحكومة الشرعية الميثاقية. ثم وافق الحزب في اتفاق الدوحة، الذي أنهى اجتياحه العاصمة وبعض أطراف الجبل، على دعم المحكمة، وشارك في الحكومتين اللتين أعقبتا التسوية، وتبنى بيانيهما الوزاريين اللذين يدعمان المحكمة، مقابل موافقة الفريق الآخر على تشريع سلاح المقاومة، من خلال تضمين البيانين معادلة"الشعب والجيش والمقاومة"، ما أدى إلى إنهاء حالة التوتر وترسيخ السلم الأهلي والوحدة الوطنية، والتوجه إلى الاهتمام بالأمور الحياتية للمواطنين. وعاود الحزب، منذ حوالى ثلاثة أشهر، هجومه على المحكمة الدولية، ناعتاً إياها بالإسرائيلية، لقناعته بأن القرار الاتهامي المتوقع صدوره عن المدعي العام الدولي القاضي دانيال بلمار، سيوجّه الاتهام الى بعض عناصر الحزب بالضلوع في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدلاً من توجيهه إلى إسرائيل، التي يؤكد الحزب، من خلال كشفه بعض الأدلة والقرائن التي تدينها، على ضلوعها في الجريمة. وما لبثت الأمور أن تأزمت أكثر، بانقلاب الحزب على التزامه تأييد المحكمة ودعمها، ومطالبته الحكومة عدم التعاون معها والتوقف عن المساهمة في تمويلها. وأيدته في هذا التوجه أطراف المعارضة، كما لقي تجاوباً من دمشق، التي أعلنت على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم تخوفها من انهيار الأوضاع الأمنية في لبنان، نتيجة التسييس الذي تمارسه المحكمة، وعلى لسان نائبه فيصل المقداد الذي خيّر اللبنانيين بين الكيان والمحكمة. واللافت في هذه الظروف الدقيقة، إصدار قاضي التحقيق الأول في دمشق، مذكرات توقيف غيابية في حق 33 شخصية سياسية وقضائية وأمنية وإعلامية، في قضية"شهود الزور"التي رفعها اللواء جميل السيد أمام القضاء السوري، وهي رسالة سياسية للرئيس سعد الحريري للقيام ببعض الخطوات المطلوبة منه، التي تؤدي إلى إسقاط المحكمة الدولية. وفي الوقت الذي يواصل"حزب الله"هجومه على المحكمة، وتهديد أي مجموعة في لبنان، قد تلتزم القرار الاتهامي، بأن يتم التعامل معها على انها واحدة من ادوات الغزو الأميركي ? الإسرائيلي، تلقى ما يلقاه الغازي، كما جاء على لسان أحد قياديي الحزب نواف الموسوي، وهي دعوة صريحة إلى هدر دم المؤيدين للمحكمة، بتهمة الخيانة، تتمسك الغالبية وفي مقدمها"تيار المستقبل"بالمحكمة من أجل كشف المحرضين والفاعلين ومعاقبتهم، وترفض أسلوب التهويل والتهديد الذي تنتهجه المعارضة لإسقاط المحكمة، وتؤكد رفضها القرار الاتهامي، إذا لم قوياً ودامغاً ويتضمن أدلة صلبة ووقائع ثابتة. وفي خضم السجال السياسي، جاءت دعوة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، المحكمة"إلى استعادة صدقيتها من خلال إظهار استقلاليتها وابتعادها من التسييس، والتحقيق في كل الاحتمالات المطروحة، والتدقيق بروية وتمهل في كل الوقائع"، ما يجعلنا نتوقف أمامها، كونها تتعارض مع واقع المحكمة، من ناحية تمهلها في التحقيقات، وقبولها قرائن السيد نصرالله التي تشير إلى تورط إسرائيل في الاغتيال، وإطلاقها الضباط الأربعة، وقبولها مراجعة اللواء السيد في شأن الاطلاع على شهادات بعض الشهود، الأمر الذي يؤكد صدقيتها وابتعادها من التسييس. والمطلوب من الرئيس حماية المحكمة، التزاماً بقسمه، وحرصاً على دماء الشهداء وسمعة لبنان الدولية. وكان هدف المجتمع الدولي من إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، تحقيق العدالة الدولية، وتعزيز دولة الحق والقانون، ووقف مسلسل الاغتيالات، وحماية لبنان من الوقوع في أتون الفوضى الأمنية، والتشديد على رفض المجتمع الدولي السكوت عن اللجوء إلى القتل واستعمال العنف لحسم الخلافات السياسية. ولا تتأثر اعمال المحكمة بالسجالات بين القوى السياسية في لبنان، ولا يتوقف مسارها بوقف مساهمة الدولة اللبنانية المالية بها، إذ يتحتم على الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، تأمين بدائل للتمويل المطلوب، من الدول والهيئات الداعمة للمحكمة. ولن تجدي نفعاً ضغوط"حزب الله"الهادفة إلى إسقاط المحكمة، وإن تمكن من إسقاط الحكومة الحالية والمجيء بحكومة موالية له، مع صعوبة تحقيق هذا الطرح، كون المحكمة تتبع مجلس الأمن ولا علاقة للحكومة اللبنانية بمسارها، وأن من غير الممكن ان يلجأ مجلس الأمن إلى إلغاء المحكمة، التي أنشاها بعد مشاورات كثيفة وجهود مضنية، لأن ذلك يؤدي إلى انهيار هيبته وفقدان الثقة بقراراته، ومعاودة الاغتيالات السياسية لانعدام المحاسبة وبقاء المجرمين طلقاء، وتهديد الأنظمة الديموقراطية من خلال تحكّم بعض القوى المسلحة في قرار الدول ومؤسّساتها، وزيادة الشرخ الوطني وتهديد السلم الأهلي. كما أن سحب الاعتراف اللبناني بالمحكمة، يؤدي إلى زعزعة الثقة الدولية بلبنان، وابتعاد المجتمع الدولي من حمايته وتقديم الدعم السياسي والمالي له. وفي انتظار صدور القرار الاتهامي، يعيش لبنان وضعاً داخلياً هشاً، في ظل تصعيد وتوتر سياسي منفلت، يرتبط بالوضع المأزوم في العراق، وتعثر المفاوضات الفلسطينية ? الإسرائيلية المباشرة، التي تعارضها جبهة الممانعة الإيرانية ? السورية وحلفاؤها، وتداعيات الملف النووي الإيراني. وتزداد حالة القلق لدى الدول الأوروبية المشاركة في قوات"اليونيفيل"، من اللهجة التهديدية من معارضي المحكمة، وتلويحهم بإمكانية اندلاع حرب داخلية، قد تعرّض سلامة قواتها للخطر. ويعتبر تحذير السفير السعودي في لبنان علي عواض عسيري اللبنانيين، من تداعيات الانقسام حول المحكمة على الوضع الداخلي، ودعوتهم إلى وضع خطة تخدم لبنان لكيفية التعامل مع إفرازات القرار المنتظر، خير تعبير عن خطورة الوضع اللبناني وعدم قدرة أحد على التأثير في القرار الاتهامي. وعلى رغم تدهور الأوضاع في لبنان والمنطقة، واتجاهها نحو الانزلاق إلى الفتنة والحرب، يغلق"حزب الله"الأبواب أمام أي تسوية محتملة، تؤدي إلى تحقيق العدالة وتأمين الحقوق المشروعة لأهالي الشهداء وضمان الأمن والاستقرار في لبنان، برفضه القبول باتهام بعض عناصره في الجريمة، وإن كانت الأدلة ضدهم ثابتة وقاطعة، ما يجعلنا نتساءل عن الهدف الحقيقي من هذا الرفض، وهل هو لبناني من أجل تعزيز موقعه وتغيير المعادلة السياسية الداخلية، أم ان الأوضاع الضاغطة على حليفه الإيراني، تدفعه إلى استباحة الدولة اللبنانية، بحيث تصبح الورقة اللبنانية أهم أوراق طهران التفاوضية، في شأن ملفها النووي ونفوذها في المنطقة؟ * كاتب لبناني