عاد اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري إلى واجهة الأحداث في لبنان، بعد تصديق قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الخاصة بلبنان دانيال فرنسين على القرار الاتهامي للمدعي العام في المحكمة دانيال بلمار، وصدور مذكرات توقيف في حق أربعة عناصر قيادية في «حزب الله»، متهمة بتنفيذ الاغتيال. وتزامن صدور القرار الاتهامي مع مناقشة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بيانها الوزاري، ما اعتبرته «قوى 8 آذار»، المهيمنة على الحكومة، محاولة لعرقلة مسيرة الحكومة. بينما اعتبرت «قوى 14 آذار» وشريحة كبيرة من اللبنانيين البند المتعلق بالمحكمة الدولية تراجعاً من الحكومة عن معرفة الحقيقة وإحقاق العدالة. إذ رأت في عبارة «المحكمة التي أُنشئت مبدئياً لإحقاق الحق والعدالة» التي وردت في البيان تشكيكاً بالمحكمة وعدالتها، وعبارتي «متابعة أعمالها» وليس التعاون معها، و «احترام القرارات الدولية الخاصة بها» وليس الالتزام بها، بمثابة محاولة من الحكومة للتملص من التعاون مع المحكمة والالتزام بقراراتها. ورأت هذه الشريحة في هذا البند تنكراً وخروجاً على التزام لبنان بالمحكمة، ومخالفة لسياق البيانات الوزارية السابقة، وبما ورد في خطاب القسم لرئيس الجمهورية ميشال سليمان، من التزام لبنان بالمحكمة والقرارات الدولية الخاصة بها. أنشئت المحكمة الخاصة بلبنان بموجب القرار الرقم 1757 الصادر عن مجلس الأمن، تحت الفصل السابع، وهي محكمة جنائية تبقى سارية المفعول حتى ولو تخلت عنها الدولة اللبنانية، لأنها أنشئت بقرار دولي وليس بموجب معاهدة بين الأممالمتحدة ولبنان. وتطبق المحكمة القواعد القانونية التي تكفل محاكمة نزيهة وشفافة للمتهم، ومن هذه القواعد علنية المحاكمة، وقرينة البراءة التي تحتم اعتبار المتهم بريئاً حتى إثبات العكس. وتفرض المحكمة «قواعد الإجراءات والإثبات» التي تضمن حسن سير العدالة، إذ حددت المادة 25 من القواعد، ضرورة أن يتمتع كل من المدعي العام ورئيس مكتب الدفاع كما سائر قضاة المحكمة بالنزاهة والأخلاق، وابتعادهم عن أي صلة أو مصلحة تؤثر في تجردهم. وتعتمد المحكمة أعلى معايير العدالة، وتوفر الوسائل الضامنة للمتهم لممارسته حق الدفاع، باختيار محام من قائمة المحامين المولجين الدفاع عن المتهمين، كما يجوز له تعيين محام للدفاع عنه من خارج القائمة المعدة، شرط أن يستوفي المحامي الشروط المهنية والشخصية المطلوبة. أما الحديث عن عدم حياد المحكمة، فيبقى في نظر معظم الخبراء القانونيين، كلاماً سياسياً تشوبه الكثير من الأخطاء. وما أن صدرت مذكرات التوقيف، حتى عاود الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصر الله، في إطلالاته التلفزيونية، الهجوم على المحكمة ناعتاً إياها بالأميركية والإسرائيلية، والتشكيك بصدقيتها ونزاهة تحقيقاتها وحياد قضاتها. ويعتبر إعلانه حماية المتهمين المطلوبين ورفض تسليمهم إلى القضاء الدولي، تحداً سافراً للمحكمة وأهالي شهداء «ثورة الأرز» وشريحة واسعة من اللبنانيين والمجتمع الدولي، واستهتاراً بالقوانين اللبنانية والدولية، وتنكراً لمسؤوليات الدولة في بسط سلطتها على كل أراضيها. ووضع نصر الله ميقاتي الذي لا يترك فرصة إلا ويؤكد فيها التزامه بدماء الشهداء والقرارات الدولية، في موقف حرج، لا يستطيع الدفاع عنه. ونتساءل هل يريد ميقاتي فعلاً تحقيق العدالة الدولية؟ وكيف يستطيع ذلك وحكومته تشكلت من غالبية وزارية تعارض المحكمة، وتتأثر بقرار دمشق و «حزب الله» الرافض للمحكمة، وجاءت على أنقاض حكومة سعد الحريري التي أسقطتها دمشق و «حزب الله»، كخطوة تمهيدية لإسقاط المحكمة الدولية. ويحتار الناس العاديون من يصدّقون. هل يصدّقون المدافعين عن المحكمة الذين يريدون معرفة الحقيقة الكاملة عن جريمة الاغتيال، ومحاسبة المتورطين فيها، عقاباً لهم على جريمتهم وإحقاقاً للحق والعدالة، ومنعاً للآخرين من القيام بأعمال مماثلة. وتتمثل حجة هؤلاء في شفافية المحكمة، تشكيلها من قضاة دوليين من دول مختلفة، يتمتعون بالكفاية والأخلاق والمهنية العالية، وقوانينها العادلة التي تعطي المتهم الذي يعتبر نفسه بريئاً، مروحة واسعة من الإجراءات لإثبات براءته. ويشدد المدافعون على أن هدفهم من المحكمة العدالة وليس الثأر أو الانتقام. أم يصّدق الناس تحليلات نصر الله ووثائقه التي كشفها على شاشات التلفزة، والتي لم يتم التثبت من صحتها أو أهميتها على مسار التحقيق. ويحاول نصر الله في خطاباته شد عصب أنصاره، من خلال التركيز على هدف المحكمة الحقيقي وهو النيل من المقاومة، وليس معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة. ولا بد من الإشارة إلى أن مضمون القرار الاتهامي من قرائن وإثباتات لم يكشف عنه بعد، ومن المتوقع أن يكون واضحاً ومستنداً إلى أدلة دامغة، أما إذا جاءت الاتهامات هشة ومتجنية، عندئذ تصبح المحكمة موضع اتهام، ويصبح كلام نصر الله في محله. أما التجني على المحكمة قبل الكشف عن مضمون قرارها الاتهامي، وقبل المحاكمة، فإنه يعتبر هروباً إلى الأمام، وتغطية لعناصر في «حزب الله» قد تكون متورطة في جريمة الاغتيال. وكان الأجدى بالحزب الابتعاد عن سياسة الإنكار وإثبات براءة عناصره المتهمة، كما يؤكد نصر الله في خطاباته، في المحكمة بدحض أدلتها بأدلة وإثباتات مضادة، وبذلك يكشف انحياز المحكمة. كان نصر الله رفض، لدى ظهور بعض التسريبات الإعلامية عن تورط بعض عناصر الحزب بالاغتيال، فرضية عناصر غير منضبطة قد تكون متورطة، وشدد على متانة الحزب وعدم إمكانية اختراقه من أي جهة كانت. لكنه عاد منذ أسابيع قليلة يعلن عن توقيف عناصر تحتل مواقع متقدمة في الحزب تعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وربما الموساد الإسرائيلي أيضاً. ويشير هذا الأمر إلى احتمالات عدة، ويدل على مدى الإرباك الذي يسيطر على «حزب الله». ويعتقد البعض بأن صدور مذكرات التوقيف في هذا الوقت كان رداً على اكتشاف خلية التجسّس الأميركية. واشتد مع صدور القرار الاتهامي السجال حول العدالة والاستقرار، فمنهم من يطالب بالتخلي عن العدالة في سبيل استقرار لبنان، مثل النائب وليد جنبلاط الحليف الجديد ل «حزب الله»، ومنهم من يطالب بالعدالة من أجل تحصين الاستقرار في لبنان، وفي طليعة هؤلاء أهالي الشهداء و «قوى 14 آذار». في المقابل يعتبر «حزب الله» القرار الاتهامي ظالماً، والذين يؤيدونه يدعمون الظلم ويتنكرون للحقيقة والعدالة، وأنه غير معني بالاغتيال والمحكمة. وستكون الأسابيع المقبلة حافلة بالمفاجآت والتطورات، خصوصاً لدى كشف مضمون القرار الاتهامي وبدء المحاكمة. فهل يؤدي القرار إلى تلازم العدالة والاستقرار، أم إلى الفوضى والفتنة في لبنان والمنطقة؟ * كاتب لبناني