يتزايد الحديث هذه الأيام عن ضرورة انتهاج الواقعية في التعاطي مع عملية المفاوضات، لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، لكن غالبية المتحدثين يتناسون أن هذه الواقعية في حقيقتها، ومن دون مواربة، باتت مرهونة بالانصياع للإملاءات السياسية وللأمر الواقع الإسرائيليين، أيضاً. اللافت أن الواقعية العربية السائدة هي من النمط الانتقائي، والسطحي، والمتناقض مع ذاته، بدليل أنها لا تتعامل بواقعية مع عملية المفاوضات، وذلك من خلال استمرارها فيها من دون التزام بمرجعيات قانونية وزمنية، وبتجاهلها لمعنى تملص إسرائيل من الاتفاقات والتفاهمات المعقودة معها منذ اتفاق أوسلو قبل 17 عاماً، وصولاً لمسار انابوليس في العام 2008، وفي ظل الاستيطان. القصد من كل ما تقدم لفت الانتباه إلى أن ثمة واقعية وواقعية، فالواقعية عندنا تختلف عن الواقعية عندهم، في منطلقاتها ومضامينها وغاياتها، فهي تبدو لدينا ساذجة وغير منطقية ومنحطّة، لأنها مبنية فقط على التلاعبات والرغبات والإرادات، بينما هي عند غيرنا تبدو متأسسة أكثر على معطيات الواقع وحسابات موازين القوى، أي أنها واقعية عقلانية ومدروسة وتعرف ما تريد. وفي حين أن واقعيتنا لا تنطلق مما يحدث عندنا أو ما نملكه من قوى، وإنما مما يحدث عندهم، أي بالتعويل على أزماتهم، ومشكلاتهم التاريخية، فإن واقعيتهم بالمقابل تنطلق من معرفتهم بعناصر قوتهم، ومكامن ضعفهم، كما من معرفتهم بعناصر القوة عندنا. في هذا الإطار، مثلاً، فقد كانت تصريحات افيغدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل وزعيم حزب"إسرائيل بيتنا"، للمهاجرين اليهود الروس"الجدد"، التي تحدى فيها المجتمع الدولي، بإعلانه من منصة الأممالمتحدة بأن الاتفاق مع الفلسطينيين بحاجة لعقود من الزمن، وأن على العالم أن ينشغل بقضية إيران بدلاً من الانشغال بقضية فلسطين، تصريحات جد واقعية، كونها تحدثت بصراحة عما يجري فعلاً، وليس عن المتخيل أو المأمول. وربما أن هذه الصراحة، التي كشفت عقم واقعيتنا وتهافتها، أزعجت واقعيينا، الذين تنعشهم أحاديث بيريز وأولمرت وباراك المعسولة عن السلام. على ذلك يجدر التمييز بين واقعية وواقعية، من جهة المعطيات ومن جهة المضامين والغايات والمآلات. وبهذا الصدد مثلاً، فإذا حكمنا بلا واقعية عملية المفاوضات الجارية، ولا جدواها، فإن البديل عن ذلك لا ينبغي أن يكون لا واقعي أيضاً، كمثل تأمّل إطلاق انتفاضة ثالثة، أو العودة إلى خيار المقاومة المسلحة. فهذان الخياران لا يمكن أن يحصلا بكبسة زرّ، ولا يبرزان بمجرد الاقتناع بإخفاق خيار المفاوضة، وإنما هما يظهران في حال اختمرت الظروف الموضوعية والذاتية المناسبة، وفي حال توافرت الحوامل المجتمعية والسياسية لهما. وكانت التجربة السابقة بينت أن الانتفاضة لا تندلع بقرار من هذا الزعيم أو ذاك، ولا بإعلان من هذا التنظيم أو غيره وهو ما حصل في تجربة الانتفاضة الأولى. وإذا كان خيار المقاومة المسلحة بيد التنظيمات، فإن نجاح هذا الخيار يتطلب توافر حاضنة شعبية واعية لضرورته وغاياته، وقادرة على تحمل نتائجه وتبعاته، على كافة الأصعدة. والعبرة من الانتفاضة الثانية أنها بينت أنه بإمكان الفصائل إطلاق المقاومة المسلحة، ولكنها بينت بنفس القدر، أيضاً، بأن المبالغة بهذا الخيار، وعدم إدارته بطريقة مناسبة، وعدم توافر القدرة على استثماره سياسياً، يمكن أن يؤدي إلى مخاطر جمة، على القضية والشعب والحركة الوطنية، أكثر بكثير من العوائد المرجوة منه. هكذا يصح الاستنتاج بأن الواقعية السياسية تفترض نبذ العملية التفاوضية، بمعادلاتها وإطاراتها التفاوضية الحالية، كونها غير ذات جدوى، ولا تقدم ولا تؤخر في الواقع شيئاً، طالما أن إسرائيل مصرة على فرض املاءاتها التي تجحف بحقوق الفلسطينيين، وطالما أن هؤلاء لا يستطيعون شيئاً إزاءها. ولعل الواقعية السياسية، أيضاً، تفترض بالقيادة الفلسطينية تحصين أوضاعها الداخلية، وتعظيم عناصر قوتها، بتوطيد إطاراتها الشرعية، ومأسسة بناها، واعتماد الديموقراطية في علاقاتها الداخلية. فليس من الواقعية بشيء أن تذهب نحو المفاوضات في حين أن مكانتها التمثيلية والوطنية في حالة انحسار، أو في موضع تصدع أو تشكيك، لا سيما في واقع بات فيه معظم الفلسطينيين، في الداخل والخارج، خارج عملية المشاركة السياسية، إن بحكم ضمور المؤسسات الوطنية الجامعة، أو بحكم ترهل بنى العمل الوطني وضمنها بنى المنظمة والسلطة ذاتها. وبديهي أن الواقعية الرشيدة لا تفترض من القيادة الإيحاء بميلها الى التنازل سلفاً عن بعض الحقوق، أو شطب قوة شعبية، بحجم قوة اللاجئين الفلسطينيين، الذين شكلوا القوة المحركة للحركة الوطنية المعاصرة، والذين تشكل قضيتهم جوهر قضية فلسطين، وإنما هي تفترض عكس ذلك، أي تعزيز مكانتها كممثل للشعب، وتعزيز ارتباط اللاجئين بمنظمتهم وبكيانهم السياسي وبمشروعهم الوطني. كذلك فإن الواقعية السياسية تفترض الوصل مع المعارضة، وعدم القطع مع القوى التي تدعو الى المقاومة وحتى بالاستفادة من التجربة الإسرائيلية في هذا المجال، وبالخصوص عدم إدارة الظهر لقطاع غزة، أو تركه في خضم الحصار، لأن كل هذه التصرفات تضر بالمصداقية الوطنية للقيادة، وتقزم مكانتها التمثيلية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، وضمنه في المفاوضات أيضاً. نعم هذا ليس وقت المفاوضات، لأنها ليست خياراً واقعياً في هذه الظروف، وبعد هذه التجربة، ولأن الاستمرار فيها، في ظل حال التدهور والترهل والاختلاف والانقسام، هو بمثابة الوصفة الملائمة لمزيد من الارتهان للإملاءات السياسية الإسرائيلية، وتدهور المشروع الوطني الفلسطيني. أما البديل عن ذلك فيتطلب التحول نحو إعادة بناء الوضع الفلسطيني من أساسه، إن كان ما زال ثمة سبيل إلى ذلك. * كاتب فلسطيني