بعد تبنيها حل الدولتين قرابة 35 عاماً، وارتهانها له طوال 16 عاماً (منذ توقيعها اتفاق أوسلو) بدأت القيادة الفلسطينية تلوّح بإمكان مغادرتها هذا الحل والتحول نحو حل الدولة الواحدة الثنائية القومية (راجع تصريحات صائب عريقات المنشورة في «الحياة» 5/11). طبعاً، ليس ثمة مشكلة من حيث المبدأ في هذا التحول، فلطالما أخطأت القيادة الفلسطينية بحصر نفسها في خيار واحد، ولكن المشكلة تكمن في طرح هذا الأمر وكأنه بمثابة نزوة، أو في التلويح به إزاء إسرائيل من قبيل المناورة، أو كنوع من التهديد لها، رداً على تملصها من حل الدولتين وإصرارها على مواصلة سياساتها الاستيطانية في الضفة الغربية. والواقع أن القيادة الفلسطينية كانت معنية منذ زمن طويل بإيجاد بدائل، أو خيارات وطنية متعددة، ولكنها بدلاً من ذلك رسّخت ارتهانها لحل الدولة في الضفة والقطاع، ونمّت ثقافة وسلوكيات وأنماط عمل سياسية وبنى سلطوية تتناسب مع هذا الخيار وتصعّب إمكان مغادرته. الحاصل الآن أن الحركة الوطنية الفلسطينية رتّبت حساباتها على قاعدة الارتهان لكيان السلطة، وثمة طبقة سياسية واسعة، باتت مرتهنة معنوياً ومعيشياً لمكانتها في السلطة، كما ثمة قطاع واسع من الفلسطينيين يعيش على الدعم المقدم من الدول المانحة لعملية السلام، بواقع وجود حوالى 180 ألف موظف في السلطة في السلكين المدني والأمني (في الضفة والقطاع). فوق ذلك فقد تم تهميش مكانة منظمة التحرير (الرمزية والتمثيلية) لصالح كيان السلطة، التي باتت تشكّل حجر الزاوية في العمل الفلسطيني، سواء من جانب القيادة الرسمية أو من جانب المعارضة (وضمنها حركة «حماس»). ويبدو أن من الصعب تصور استعادة المنظمة دورها ومكانتها، ليس لأن لا احد عملياً يرغب في ذلك، وإنما لأن الزمن العربي والدولي الذي جاءت خلاله المنظمة انتهى. إضافة إلى كل ما تقدم فقد نحّت القيادة الحالية مختلف أشكال النضال ضد إسرائيل، ولا نقصد هنا فقط شكل المقاومة المسلحة (التي طالما خيضت بأشكال مزاجية وفوضوية أضرت بالفلسطينيين)، فهذا الأمر يشمل أيضاً مختلف أشكال النضال الجماهيرية، التي اعتاد الفلسطينيون خوضها قبل قيام السلطة (1994)، ومن بينها الأشكال التي تم انتهاجها في الانتفاضة الأولى (19871993)، حيث يلهج لسان حال القيادة بأن لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات! ويستنتج من ذلك بأن طرح خيار الدولة الثنائية القومية لا يمكن أن يأتي على شكل نزوة، ولا على شكل مناورة عابرة، بمعنى انه يجب الإعداد له، والاستعداد لتحمل تبعاته، والتداعيات التي يمكن أن تنجم عنه فلسطينياً، ومن جهة إسرائيل. وبديهي أن هذا الخيار يفترض مغادرة عملية المفاوضات، طالما أنها لا توصل إلى النتيجة المطلوبة، وأيضاً اتخاذ قرار بشأن مصير السلطة الفلسطينية القائمة، إن بشأن حلها، أو الإبقاء عليها كمجرد سلطة لإدارة أحوال الفلسطينيين، وكنوع من كيانية سياسية وطنية لهم (بإنهاء دورها التفاوضي). من الواضح أن من تبعات هكذا خيار تحميل إسرائيل مسؤولياتها كسلطة احتلال، ولكن يجب أن يكون واضحاً أيضاً ان من تبعاته عودة وطأة الاحتلال على حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. كما سيكون من تبعات ذلك تفكك شبكة العلاقات السلطوية الفصائلية، وتحمل الفصائل التحديات التي تفرضها عملية مواجهة سياسات الاحتلال، وضمنها إعادة بناء ذاتها لاستنهاض مختلف أشكال الكفاح الشعبي ضد السياسات الاستعمارية العنصرية لإسرائيل. أيضا، فإن طرح هكذا خيار يتطلب إتاحته للنقاش العام، وإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أساسه، وضمن ذلك إيجاد ثقافة سياسية فلسطينية تدرك أبعاده، السياسية والقانونية والديموغرافية والتاريخية. ومن المعلوم أن الحديث عن دولة واحدة (بين اليهود والفلسطينيين)، أكانت على شكل دولة مواطنين أو على شكل دولة ثنائية القومية، على رغم أنها طرحت سابقاً في إطار الفكر السياسي الفلسطيني، إلا أنها مسألة معقدة، وصعبة، ولم تأخذ حقها من البحث والنقاش، كما لم تتحول بعد إلى نوع من ثقافة سياسية شعبية. وعلى صعيد أشكال العمل، فإن القول بخيار الدولة الواحدة الثنائية القومية يفترض بالقوى الوطنية المعنية أن تهيئ شعبها لأشكال نضالية معينة، وعلى رغم أن ذلك لا يستثني المقاومة المسلحة (في بعض الحالات)، إلا أنه لا بد أن يستثني تماماً ظاهرة العمليات التفجيرية، أو ظاهرة القصف الصاروخي، لأن هكذا عمليات لا تتناسب مع هدف التعايش في دولة واحدة، ولا تمكّن من خلق التناقضات في مجتمع العدو، ولا تساعد على خلق قوى متعاطفة مع حقوق الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي مستقبلاً. أخيراً، وكما هو معلوم، فإن طرح الدولة الواحدة ليس قابلاً للتطبيق في المدى المنظور، لأنه ليس مجرد شعار، فهكذا طرح يحتاج إلى تفاعلات إسرائيلية مناسبة، وإلى نوع متميز ومضن وطويل من النضال الفلسطيني، كما يحتاج إلى إطارات دولية وعربية ملائمة. وإلى حين ذلك، وبالنظر إلى غطرستها، ووعيها ذاتها كدولة يهودية، فمن المتوقع أن تشدّد إسرائيل من سياساتها القمعية والعنصرية والاستيطانية إزاء الفلسطينيين، بمعنى أن ثمة مرحلة انتقالية صعبة ومريرة، سيواجهها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية. على ذلك فإن القيادة مطالبة بعدم طرح خيار الدولة الواحدة كمجرد فكرة، أو التلويح بها من قبيل المناورة، فما بالك بطرحها كنوع من التهديد لإسرائيل؟ والأحرى بهذه القيادة أن تعد نفسها وتعد شعبها، بكل جدية ومسؤولية، لمواجهة استحقاقات ما بعد مرحلة المفاوضات، ليس على مستوى الشعارات فقط، وإنما على مستوى البنية والعلاقات الداخلية والثقافة السياسية وأشكال العمل في مواجهة إسرائيل أيضاً. بمعنى أنه آن الأوان لوضع استراتيجية جديدة للعمل الفلسطيني. * كاتب فلسطيني