لم تمض أشهر بعد شرائي بيتي الأول في لندن سنة 1976 حتى كنا نواجه صيفاً قائظاً لم يعرف الإنكليز مثله منذ عقود، فقد بقيت درجة الحرارة حوالى 30 مئوية أسابيع متعاقبة وتساقط ألوف الإنكليز في الشوارع وقد أصيبوا بضربة شمس، مع أن الدرجات الثلاثين تعني طقساً معتدلاً في بلدان عربية عدة. وجدنا الجو داخل البيت خانقاً وحاولنا أن نفتح نوافذ الصالون المطلة على الشارع، إلا أننا اكتشفنا أنها مغلقة بإحكام بالدهان المتراكم عليها عبر السنوات. واستنجدنا بنجار رفض أن يعمل آلاته في النوافذ قبل أن يبلغ البلدية، لأن واجهة بيتنا محمية لقدم البناء. وبقينا في أخذ وردّ مع الجهات البريطانية المعنية والنجار حوالى عشرة أيام قبل أن يبدأ العمل، وأنا لا أكاد أصدق أن فتح شباك يحتاج الى ترخيص. كنت جديداً على بريطانيا وقوانينها وتعلمت بسرعة أن هناك مبانيَ قديمة أثرية تُحمى كاملة من الداخل والخارج، فلا يغير فيها شيء، وأن هناك مبانيَ من نوع بيتي تقع واجهتها الخارجية تحت الحماية، ولكن يمكن تغيير الداخل. وعندما انتقلت والعائلة الى واشنطن حيث أقمنا بضع سنوات وقّعنا مع شركة بناء عقداً لإعادة بناء البيت القديم، ورفضت السلطات انتزاع النوافذ وإرسالها الى مصنع لإصلاحها ثم إعادتها الى مكانها، فالخبير قرر أن خشبها سليم لم ينخره السوس، وبالتالي لا سبب لاقتلاعها من مكانها. وبما أنني مواطن يحترم القانون حتى لا أقول جبان، فقد تعلمت الدرس وزدت عليه في المنزل التالي عندما اكتشفت أن شجرة ورد محمية بدورها، وانني لا أستطيع تشذيب أغصانها من دون موافقة البلدية. عاد إليّ كل ما سبق وأنا أقرأ في الصحف اللبنانية جدلاً أطلقه المحامي نهاد نوفل بعد أن كتب في"النهار"مقالاً عنوانه"بيت فؤاد شهاب مطعم! معقول؟"جاء فيه أن بيت الرئيس الأسبق فؤاد شهاب في جونيه بيع وأنه سيحوَّل الى مطعم باسم"مطعم المير"إشارة الى أنه كان بيت الأمير فؤاد شهاب. والمحامي نوفل طلب رفع الصوت عالياً"قبل أن يكمل معول الهدم لتهديم الباقي من معالمنا التي هي بعض ذاكرة لبنان". في اليوم التالي نشرت"النهار"رداً من مجلس بلدية جونيه جاء فيه إن المجلس البلدي وافق بالإجماع على استملاك العقار 167 أي بيت الأمير من أجل إنشاء متحف ومكتبة عامة في البناء القائم عليه. يفترض أن يكون بيان المجلس البلدي حسم المقال في الموضوع، وقد ارتحت لقراءته بقدر ما تأثرت بكلام المحامي نوفل في اليوم السابق، فالرئيس شهاب كان أفضل رئيس عرفه لبنان منذ استقلاله، ثم إنني أعتبر نفسي من حدث بيروت بحكم الإقامة الطويلة فيها، وهناك في الحدث"حارة الإمارة"حيث توجد بيوت كثيرة للأمراء الشهابيين. ربما كان للإقامة في بريطانيا تأثير في إذكاء وعيي التراثي، غير انني أيضاً كما قال المتنبي: خلقت ألوفاً لو رجعت الى الصبا/ لفارقت شيبي موجع القلب باكيا. وكنت كتبت يوماً عن سنديانة عين تراز، وهي في ضخامة شجر الأرز، ثم خفت أن تكون الحرب الأهلية قضت عليها مع ما قضت عليه، وزرتها قبل أشهر وسررت جداً أن أراها خضراء شامخة، كما سرني أن أرى عمالاً يصلحون قصر الرئيس حبيب باشا السعد وهو في الواقع بيت من حجم متوسط في واحدة من أجمل مناطق لبنان. أعرف أن رجل الأعمال الصديق علي غندور كان اشترى بيت الزعيم أنطون سعادة، مؤسس الحزب القومي السوري، في ضهور الشوير، وقرر أخيراً أن يحوله الى مركز للدراسات السياسية ليحافظ عليه من جهة وليؤمن بقاءه مركزاً ثقافياً من جهة أخرى. وكنت بعد محاولة الانقلاب القومية سنة 1961 زرت بيت الأستاذ أسد الأشقر، رحمه الله، بعد أن سمعت أنه تعرض لتكسير وتخريب، إلا أنني وجدت الباب فقط مكسوراً لدخول البيت عنوة، وأن الحديد فوق سور الحديقة الحجري كُسِّر لأنه كان على شكل زوبعة، أي شعار الحزب. أعتقد أن البيت بقي لأهله، ومثله كما أرجح بيت ميخائيل نعيمة في الشخروب، وكنت أزوره مع أصدقائي ونحن في طريقنا الى فنادق ومقاهي نبع صنين. مع ذلك أرجو أن يعامل بيت ناسك الشخروب كما عومل تراث جبران خليل جبران في بشري. أخيراً، أعتقد أن سبب الجدل على بيت الرئيس الأسبق أنه كان له بيت بالإيجار وبيت ملك، كما أن قصره الرئاسي في ذوق مكايل كان بالإيجار. غير أنني أرجو أن يثير الموضوع حماسة الناس ورأياً شعبياً للمحافظة على ما بقي لنا من تراث. وقد كان من صدمات العمر بعد غياب 30 سنة عن منطقتي قرب بيروت أن أعود لأجد أن نهر الغدير في كفرشيما تحول الى مرأب للسيارات الصدئة التالفة، وضاعت جنائن التوت والإكي دنيا والجنارك، وأن سهل الشويفات كنا نسميه صحرا الشويفات تحول أو مُسخ من سهل يضم شجر زيتون عتيق كريم الى مبانٍ سكنية بشعة، وثمة زحف على كل ما هو"أخضر حلو"في بلد النجوم. [email protected] نشر في العدد: 17077 ت.م: 05-01-2010 ص: الأخيرة ط: الرياض