تنشر"الحياة"رسائل مصطفى أمين من سجنه المصري الى شقيقه التوأم علي أمين في لبنان كاشفة وجوهاً من علاقة الصحافي بالسلطة وصراعات أهل المهنة التي تصل أحياناً الى الاستعداء. 7 شباط فبراير سنة 1970 أخي العزيز يسعدني كثيراً أن أعرف هذا الأسبوع أخبارك حتى 18 اكتوبر، وحتى 25 اكتوبر. وقد تسلمت من المصلحة خطابك 39 المؤرخ في 4 اكتوبر، الذي وصفت فيه كيف عرفت نبأ وفاة الرئيس وما تتمنى أن يفعله الرئيس الجديد. وقد ارتفعت حالتي المعنوية هذا الأسبوع. فبعد انقطاع دام خمسة شهور سمحوا لنا بالزيارة. زارتني إحسان وزيزي وفوفي: وأحسست انني أطل على مصر لأول مرة، بعد خمسة شهور كانت كل النوافذ مغلقة بالضبة والمفتاح! وحرمان المسجون من الزيارة عملية تعذيب تطول طول شهور الحرمان. ففي خلال هذه الفترة شعرت انني مقطوع عن كل شيء! عديم الصلة بأي شيء! أشبه بالأطرش في الزفة! فزيارات المسجونين هي الخيط الرفيع الذي يربطهم بالعالم. وفي كل يوم تكون لمسجون زيارة. وهكذا نشعر طوال الشهر بما يجري خارج الجدران! أما عندما نحرم من الزيارة فنشعر أننا في صناديق من الحديد، بعد أن كنا قانعين بأن نكون في أقفاص من حديد! ولقد أسفنا كثيراً أن خيرية وسعيد كانا في القاهرة أثناء فترة منع الزيارة، ولهذا لم أستطع أن أعرف أخبارك إلا من فوفي. واطمأننا أنك على ما يرام. وقد دهشت لما جاء في خطابك أنك تنتظر خطاباً من سعيد لتعرف آخر أخباري. مع أن سعيد لم يرني ولم أره. والذين يتحدث لهم من تلاميذ مسيلمة الذين يجدون لذة في أن يكذبوا عليه ويؤكدون انني بخير، وأن كل شيء على ما يرام. وهم يعرفون جيداً أنني لست بخير، وأن كل شيء على أسوأ ما يرام! وأنا أعذر سعيد لأنه يصدق ما يسمع من أكاذيب، فالعادة أن القوي لا يكذب. والكذب سلاح الضعفاء. ولكن بعض الذين نحسبهم أقوياء من خارجهم يشعرون بضعفهم ويلجأون الى سلاح الكذب المهين! ولقد قال لي سعيد من شهور إنه قابل أحد أصدقائنا ثلاث مرات في رحلة واحدة، وفي كل مرة كان الحديث عني، وعن الوعد المقطوع، وقال إن كل الظروف تشجع على الأقل بوفاء الوعد قريباً بإذن الله! وإنني أتساءل هل هيكل مستعد أن يشهد أمام الرئيس أنور السادات بالوعد القاطع الذي وعده الرئيس جمال عبدالناصر بالإفراج عن إمام سعيد وهيكل... أم انه سوف يعتبر هذا الوعد من الأسرار التي لا يجوز أن يبوح بها! إنني لا أزال أعتقد بأن هيكل إذا أراد أن يتم الإفراج عني لتمّ ذلك من اليوم الأول. انني عرفت الرئيس عبدالناصر عن قرب. وعملنا معه يومياً لمدة 13 سنة! وأعرف جيداً أن كلمة واحدة في ساعة رضا، ممكن أن تفتح أبواب السجن في خمس دقائق! إنني لا ألقي هذا الكلام على عواهنه. إنني أقوله نتيجة تجربتي شخصياً، إنني انتهزت إحدى فرص رضاه وطلبت منه الإفراج عن محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية الوفدي المحكوم عليه بالسجن المؤبد، فأفرج عنه من اليوم التالي! وفعلت نفس الشيء بشأن فؤاد سراج الدين... وفعلته عشرات المرات بشأن مسجونين آخرين. ولا يمكن أن يكون عبدالناصر تغير عما عرفته، ولا يمكن أن تكون صلة هيكل به أقل مما كانت صلتي بالرئيس عبدالناصر. ولقد سبق أن أخبرتك بالوعود الكثيرة التي حملها لها هيكل. وهي نفس الوعود التي قيلت لكم. والفرق بيني وبينكم أنكم كنتم تصدقون... وكنت أنا لا أصدق! ولقد كان كل ما تمنيت أن أحصل عليه، جزاء ما قدمت لبلادي من خدمات يشهدون بها ولا يستطيعون إنكارها، كل ما تمنيت هو حقي في العدالة! حتى هذا الحق البسيط حرمت منه! ومن أجلي أنا شخصياً تألفت محكمة عسكرية برئاسة الفريق الدجوي لتحاكمني حتى أحرم من المحاكمة العادلة أمام محكمة الجنايات العادية! ومن أجلي شخصياً صدر قانون يحرم الطعن في إجراءات التحقيق حتى أحرم من أن أثبت التلفيق والإجرام الذي ارتكب معي... ومن أجلي أنا صدر أمر بأن يطوى التحقيق في قضايا التعذيب حتى لا يظهر انني عذبت في التحقيق، وبعد أن شهد آخرون أمام النائب العام انهم رأوني وأنا أتعذب أمامهم! وهكذا ترى أنني لم أنتظر من أحد خدمة ولا استثناء!... بل كل ما طلبت من الذين خدمتهم وأفنيت شبابي وعمري في خدمتهم أن يمنحوني الحق الذي يمنحه القانون لأبسط مواطن في هذا البلد! وفي كل مرة كان سعيد يوسّط هيكل بشأن معاملتي... كنت أفاجأ بالمعاملة تشتد، وتصبح أقسى وأعنف وأغلظ! حتى أصبحت أتوسل إليكم ألّا تطلبوا لي أي شيء... لأن الذي يحدث كان العكس تماماً! وأحب أن تعلموا أنني لم أتهمكم أبداً بالتقصير... إنني اتهمتكم دائماً بطيبة القلب وبحسن النية وبصفاء الطوية... وأنكم مكثتم أكثر من خمس سنوات تصدقون الأكاذيب! في بعض الأحيان أتصورك أنت وسعيد في دور بشارة واكيم في مسرحيات نجيب الريحاني. كان دور بشارة هو دور الشامي، الطيب القلب، رجل على نياته، يصدق ما يسمح، ولا يفترض من الناس السوء. وكان بشارة دائماً يقع ضحية أكاذيب أولاد البلد الذين يكذبون عليه ويعتبرون هذا الكذب شطارة... وأن الصدق"عبط"! والطبيعة البشرية تجعلنا نصدق الذين يقولون لنا ما نريد أن نسمعه! أكاذيبهم تريحنا وخداعهم يملأ قلوبنا بالطمأنينة! وأنا أعتقد أنكم اشتريتم الترام عدة مرات! ولولا أن الترام داسني، لما عرفت أنكم اشتريتموه! في مرة قابل فيها سعيد هيكل وصف له ما أعانيه بالضبط. واضطر الى إعلامه بأنني كتبت له خطاباً أخبره بحالتي، ورجاه أن يظل هذا الأمر سراً بينه وبينه، حتى لا أتعرض أنا ولا يتعرض سعيد لإجراءات نحن في غنى عنها. وقال سعيد:"وأنا أثق بهيكل، وبحبه لك"، وقد قال لي بالحرف الواحد والدموع في عينيه: - أقسم لك بأولادي يا سعيد أن مصطفى صعبان علي جداً. وروى لي سعيد هذا وقال بأن هيكل وعده بأنه سيهتم شخصياً بموضوع وتحسن حالتي خلال 24 ساعة! أتعرف ماذا حدث بعد 24 ساعة! حدث أن وزير الداخلية أبلغ مصلحة السجون أن بعض السياسيين يكتبون خطابات ويهربونها خارج السجن، ويجب العمل على ضبطها، ووضع كل حارس يضبط معه خطاب من مسجون في السجن! مصادفة غريبة فعلاً! ومصادفة أغرب أنه لم يحدث تحسن في المعاملة في خلال 24 ساعة ولا 24 يوماً ولا 24 أسبوعاً! ومصادفة أغرب وأغرب أن الأمر باستثنائي من المعاملة الحسنة هو أمر كتابي بإمضاء وزير الداخلية نفسه! ولا يخطر ببالي ? لا سمح الله ? أن أحمل هيكل مسؤولية ما حدث لي، وإنما أردت أن تعرف نتائج"الاهتمام"بي! وما زلت أعتقد أن هيكل لو كان تحدث مع الرئيس مرة واحدة بشأن الإفراج عني، لما بقيت في السجن ساعة واحدة! وأعتقد أنه إذا كانت انتهت مسألة الشرق الأوسط، فقد كانوا سيجدون سبباً او مبرراً لعدم الإفراج... رغم الوعد القاطع! وقد أكون سيئ الظن... فعندما قال لي سعيد إن أحد الأصدقاء ذكر له أن الحياة التي تعيشها في لندن تثير الكثير من التساؤل، وينبغي أن نجد رداً مقنعاً على هذه الأسئلة، وأن هذا الرد سوف يساعد على عمل شيء من أجلي، وأن سعيد أخبر خيرية بذلك، وطلب منها أن تثير مع صديقنا حكاية شرائك الشقة التي تسكنها بمبلغ أربعين ألف جنيه، وتدفع كل شيء، وتنفي الإشاعات التي تحولت الى حقائق... عندما سمعت هذه الحكاية أغرقت في الضحك... قلت لنفسي لا بد أنهم يعتقدون بأن مسألة الشرق الأوسط سوف تحل قريباً... ولذلك بدأوا يبحثون عن عذر أو مبرر للتحلل من وعد الإفراج عن! فالمسألة ببساطة أنهم كانوا يتوقعون أن نشحذ! انهم جردونا من كل ما نملك! نحن فقط الذين لم يدفع لنا أي تعويض عما أخذ منا!... المطلوب أن نموت جوعاً! أن نمشي حفاة عراة... أن نمد أيدينا نطلب إحساناً ويعطونا عشرة جنيهات إعانة من وزارة الأوقاف! فإذا نحن لم نركع، ونسجد، ونسترحم، فيجب أن تدوسنا الأقدام! ألم يكفهم أننا سكتنا على الظلم... لم نقل إننا مظلومون... لأن معنى ذلك أنه يوجد"ظالم"! ألم يكفهم أنك لم تفتح فمك. وأبيت أن تقول كلمة واحدة. حتى لا يتصور أحد أنك تطعن هذا الوطن الذي منحناه حبنا وحياتنا وكفايتنا وعمرنا! بل ان عملية"مطاردتنا"مستمرة... حتى أنهم يستكثرون عليك ان تعيش تعيش في لندن... وفي لندن ألوف العرب يعيشون أحسن منك ولا يهتم بهم أحد! لأن المطلوب أن تجوع وأن تتشرد! ولا أتصور أن هذا الكلام الفارغ هزك. إنني شخصياً قهقهت لأنني عرفت أن الذين اعترضوا على الشقة... سوف يعترضون غداً على"الحذاء"! قال لي سعيد مرة المهم أنك صبرت طويلاً، وتحملت كثيراً، وكنت في ذلك بطلاً! كما كنت مثلاً لنا في الصمود المذهل والرائد، وأنا لا أقول لك ذلك لأشجعك على الاستمرار، بل أقوله لأتشجع أنا على عدم اليأس والانهيار! وقال لي سعيد:"صدقني اني كثيراً ما تعرضت لليأس في قضيتك، ولكن صمودك كان هو المشجع لي ولعملي. فلا تضعف حتى لا نضعف معك. ولا تيأس حتى لا يشملنا اليأس جميعاً. ولا سيما أن هناك وعداً صريحاً لي وللأخ هيكل، والظروف الآن تمهد لتحقيق الوعد، فأرجو أن تأخذ ذلك بعين الجد والثقة، ولا تستمر في اتهامي واتهام علي بالعيش في الأحلام". وأحب أن أقول لكم إنني ما زلت صامداً كما كنت. وما زلت صابراً كما كنت. ولكني أفضل أن أصبر وأصمد، معتمداً على قوة إيماني، على أن أصمد وأصبر معتمداً على حقن الأفيون! أفضل أن أواجه نار الحقيقة مفتوح العينين، على أن أغمض عيني وأتصور انني في الطريق الى الجنة، بينما النار مشتعلة في كل جسدي! ان المعلومات التي لدي وأنا في زنزانتي أصدق للأسف، من المعلومات التي عندكم أنتم في عالم الحرية! إسفلت الزنزانة وقضبانها وأغلالها تجعلني أعيش على أرض الواقع، السلاسل تمسك بي، فلا أستطيع أن أحلّق في السماء! إن الأيام علمتني أن الذين يمشون في الشارع يرون الحقيقة أوضح مما يراها سكان الأدوار العالية! لأن الحقيقة تمشي على قدميها! والشارع يقول إن الرئيس أنور السادات يريد أن يفرج عن المسجونين السياسيين. يريد أن يفتح صفحة جديدة. يريد أن يكون رئيساً للجميع... والذين يعارضون هذا الرأي هم الذين يذرفون الدموع ويتظاهرون بأنهم يتألمون ويتعذبون للمظلومين الذين يعيشون في قبور الأحياء! الشارع هو الذي يقول هذا! ويقول إن هناك من يريد المضي في البطش والإرهاب ويعتبرها دليل القوة! إنني أؤمن أننا ضحية الذين يريدون أن يحتكروا لأنفسهم القمة! أولئك الذين تصوروا أن القمة لا تتسع إلا لفرد واحد... فألقوا من القمة من تصوروا انهم ينافسونهم فيها! هؤلاء من مصلحتهم أن يبقى ضحاياهم في أقفاصهم. أن يخمدوا أنفاسهم. أن يكتموا أصواتهم. أن يقيدوهم في السلاسل والأغلال. هؤلاء عادة من الصغار أصحاب المقامات الصغيرة، الذين يتصورون أنهم لا يرتفعون بقاماتهم، ولا يصبحون عمالقة، إلا إذا صعدوا فوق جثث أصدقائهم وأشلاء زملائهم! لقد قلت لك مرة إن"العز لا يقف أمام باب واحد الى الأبد". ولا يزال هذا رأيي وإيماني، ما زلت أؤمن أن الله قادر أن يبطل كل مكيدة، وأن الحق لا بد أن ترتفع رايته في يوم من الأيام! وأرجو ألاّ تضايقكم صراحتي! فإنني بقيت صامتاً أكثر من خمسة أعوام... ولم يبق من العمر ما يكفي لصمت جديد... قبل أن يجيء الصمت الأكبر! إن الضعفاء لا يستطيعون أن يكونوا مخلصين! والصامتون لا يستطيعون أن يكونوا مقنعين! لقد كنت أجد لذة لا حدّ لها عندما أسمع انساناً يكذب علي، وأعرف أنه كاذب، وأعرف أنه يريد أن يخدعني! وأتظاهر بتصديقه... وبذلك أخدع من يحاول خداعي! وهو موقف لذيذ لمدة خمس دقائق! ولكنه موقف مؤلم... إذا استمر أكثر من خمس سنوات. لا أعرف أين يصل إليك خطابي هذا. لقد علمت أن ثلاثة خطابات سابقة لا تزال في الانتظار. وأرجو ألاّ ينتظر هذا الخطاب طويلاً. ولو كنت في بيروت فأرجو أن تقبل سعيد وحسيبة وعصام وبسام وإلهام. وإذا كنت في لندن فأرجو أن تقبل خيرية وفاطمة وريتا ومنى. وإلى اللقاء القريب بإذن الله. الرسالة الثانية الى علي أمين 17 أكتوبر سنة 1970 أخي العزيز سلمتني المصلحة هذا الأسبوع خطابك المؤرخ في 16 سبتمبر، الذي كان فيه صفحة 6، التي نسيت أن تضعها في خطاب 14 سبتمبر. نحن نعيش اليوم في جو من التفاؤل، وجميع الموجودين هنا يتوقعون خيراً. على الأقل أن الرئيس أنور السادات الذي عاش في السجن وذاق عذابه، يعرف آلام القضبان... وأنه لا بد أن يفعل شيئاً ليخفف هذه القيود. وقد نشرت المصور كلمة كتبها أنور عن حياته في السجن ومشاعره، وشعر كل مسجون قرأها أنه عبر أصدق تعبير عن مشاعره هو وآلامه هو. وكان المسجونون يرددون هذه الكلمات كأنهم يرددون أغنية حفظوها عن ظهر قلب. وأنني أعتقد أنه على الرغم من مشاكله الكثيرة، فإن أنور سوف يفعل شيئاً لمن يعيشوا في قبور الأموات. بل اعتقد أن المشرفين على السجون سوف يتوقفون عن التفنن في البحث عن وسائل للتنكيل بسكان هذا المكان، والتنافس في حرمانهم من حقوق الأحياء! الذي ذاق السجن هو وحده الذي يستطيع أن يعرف ما هو السجن! في العدد الأخير من"المصري"الصادر في 16 أكتوبر سنة 1970 في صفحة 9 تحدث أنور عن ذكرياته في السجن وكيف أن أولاده كانوا يتضورون جوعاً وهو مسجون الى أن صرف لهم تشكيل الضباط الأحرار عشرة جنيهات كل شهر ثم يقول أنور السادات: "وكانت هذه العاطفة الصادقة من زملائي هي أسمى ما يمكن أن يشعر به مثلي في ظلمة الاعتقال، فقد يعرف الذين زاولوا الكفاح من أجل فكرة أنهم لا يضعفون أمام السجن، ولا يضعفون أمام التعذيب، وقد يخيل إليهم في لحظات الحماس والانفعال أنهم لن يضعفوا أمام شيء من الوجود... ولكنهم في هذا واهمون، فهناك الشيء الذي يضعفون أمامه، والذي لا يملكون حياله شيئاً إلا الفرار من الواقع، والفرار من التفكير في القرار من المطارق التي تطرق الرأس والقلب والضمير، وتحيل الجبار وهماً ضعيفاً يكاد يستسلم، ويكاد يستغيث، لولا كبرياء الكفاح، ويقظة الفكرة المتأصلة في نفسه، ومثالية الهدف... هذا الشيء الذي يضعف أمامه المجاهدون هو الولد، الطفل، العيال. وكانت هذه الجنيهات العشرة هي العون الوحيد الذي أقبله لأطفالي، لأنها لم تصدر عن عطف وإشفاق، وإنما صدرت عن فكرة مشتركة وتكافل بين مكافحين". الذي يكتب هذه الكلمات، يشعر بقلب المسجون وهو ينفطر حزناً وأسى على أحبائه! يعرف معنى الحرمان من الأهل. يعرف أن الحكم على المسجون هو حكم على أسرته بالتشرد والضياع. لا أعتقد أن مثل هذا الرجل يستطيع أن يترك أبرياء في السجون. يحرم مسجوناً مريضاً من العلاج في مستشفى. يمنع المسجون من أن يرى أولاده إلا في سلك يشبه قفص القرود. يمنع مسجوناً من أن يتسلم الطعام الذي تجيء به أسرته في الزيارة. يطارد كل يد تحمل الطعام الى أسرة سجين، ويضعها في السجن! لا يمكن أن ينسى أنور زنزانته رقم 54 من سجن مصر. لا يمكن أن ينسى العسف والعذاب والحرمان الذي شعر به في تلك الزنزانة. أنه وحده الذي يعرف كيف يموت المسجون من الجوع. ويموت المريض من الإهمال. ويموت الصحيح من الاختناق! أن أقل ما سوف يفعله أنور أنه سيذكر البؤساء والمساكين الذين يعيشون في أقفاص من حديد، في غرف تشبه القبور لا تدخلها الشمس ولا يدخلها هواء. سيذكر أنصاف الموتى وأنصاف الأحياء الذين يجلدون بلا ذنب. أولئك المقهورين الذين لا يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم حتى بالاستغاثة! انني لاحظت في اجتماعاتي الكثيرة به أنه يذكر دائماً أيام السجن، يذكر ما كان يلاقيه من قهر وإذلال وعسف. أحياناً كانت عيناه تدمعان وهو يتذكر هذه الأيام! وقد وصلتني آخر أخبارك حتى يوم 4 أكتوبر. وفهمت أنك غير متفائل. لأول مرة تعطي التفاؤل إجازة! ولاحظت أن سعيد متشائم، وأنه أعلن هذا التشاؤم في تلفزيون لبنان، وفي مقال في الصياد. وأعتقد أن سبب تشاؤمك أنك أشبه بالرجل الذي يحمل شيكاً على بنك، وأفلس البنك فجأة! وأنا لم أثق في يوم من الأيام في الشيكات المؤجلة انها عندي مثل شيك بلا رصيد! ولعلك سوف تتعلم من هذا أن الشيك المؤجل لا قيمة له. وأن الشيك الذي له قيمة هو الذي يستحق الدفع فوراً! وزعت الشبكة هذا الأسبوع. وقد فاتتني حلقة من القصة التي تنشرها. وسوف أحاول الحصول على هذه الحلقة. اعجبتني جداً قصيدة نزار قباني عن الرئيس جمال عبدالناصر. أنها في رأيي أحسن قصيدة نظمت في هذه المناسبة حتى الآن. وان كانت طبعاً لم ترض البعض لأنه قال ان الرئيس هو آخر الأنبياء. ولاحظت تحسيناً في تحرير الصياد، حتى تصورت ان انقلاباً حدث في التحرير. سررت بإقالة الفريق حردان التكريتي نائب رئيس الجمهورية العراقية. كنت أحس أنه جزار. أشعر أنه المسؤول الأول عن حمامات الدم في العراق. أرجو أن يختفي معه البطش والإرهاب الذي طبع الحكم البعثي بلون الدم الأحمر! وعزله عن الأمة العربية. ولعل حزب البعث يجعله الشماعة التي يعلق فيها كل ما تردى فيه من أخطاء وجرائم! ولعلك قرأت نتيجة استفتاء رئاسة الجمهورية. ان هذه النتيجة أراحتني. أشعرتني أنني كنت على في تنازلي بأنور. كان في استطاعته بكلمة واحدة منه أن يجعل النتيجة 100% لو كان يريد أن يكون"الزعيم الأوحد". لو كان يريد أن يكون الرجل الحديدي. ولكن سماحه بأن يعلم العالم بأن مليوناً من الناخبين لم يشتركوا في انتخابه. وأن 750 ألف ناخب قالوا له"لا"يدل على أننا نبدأ مرحلة جديدة، يستطيع 750 ألف ناخب أن يقولوا"لا"بغير خوف ولا تردد. هذا شيء هام جداً. لا يجوز أن يأخذه المراقب السياسي ببساطة. ان معناه أن أنور السادات لا يريد أن يفرض نفسه بالقوة. لا يريد ان لا يرتفع صوت إلا صوته. أكاد أقول ان هذا الاتجاه خطوة جديدة في الطريق الصحيح. ولا أتصور ان خطوات أنور ستكون سريعة، أو متلاحقة، ولكن أتصور انه يشعر بضخامة المسؤولية، ويريد فعلاً أن يشرك الشعب في تحملها معه. وهذا اتجاه صحيح في الطريق الصحيح. وأعرف أن البعض لا يرحبون بهذا. يتصورون ان من الممكن أن يتكرر جمال عبدالناصر بالحرف الواحد. وهذا شيء مستحيل. فالعباقرة لا يتكررون. القلم عندما ينتقل من يد الى يد يتغير خطه. سائق السيارة اذا تغير يجيء سائق آخر يقودها بطريقة مختلفة. طريقته في فشل عملية القيادة. طريقة في الفرملة طريقته في ضرب الكلاكسون. كل هذا سوف يختلف باختلاف قائد السيارة. فطريقة عصمت ايتونر اختلفت عن طريقة مصطفى كمال أتاتورك. طريقة خلفاء ستالين اختلفت عن طريقة ستالين وقد حضرنا خلافة النحاس لسعد زغلول. ورأينا ان النحاس كان يحاول أن يقلد سعد في كل شيء، ومع ذلك اختلفت طريقة كل من الزعيمين. وكذلك حدث نفس الشيء عندما خلف محمد فريد الزعيم مصطفى كامل. هذا مع أنني على ثقة أن أنور سوف يسير في طريق جمال عبدالناصر. لن يفرط في شبر واحد من ارض الوطن. لن يقبل هدنة مع الاستعمار. لن يخرج قيد أنملة على مبادئ الثورة. وأنه سيكون بنفس الإصرار على عزة مصر وكرامتها. لقد كان كثيرون يتصورون ان أنور لن يجرؤ على إيقاف اطلاق النار. تصوروا أنه أضعف من أن يفعل ذلك. ولكن الذي حدث انه أعلن في شجاعة عن استعداده هذا في وسط معركة انتخابية كان يجب أن يظهر فيها في صورة المتطرف جداً. ولكنه مشى في الطريق بكل شجاعة، وبغير تردد. هذه الشجاعة في رأيي يجب أن تجعل الذين يترددون في إعطائه قيمته الحقيقية في مراجعة أحكامهم. إنني شخصياً تمنيت لو حصل أنور في هذا الظرف العصيب على مائة في المائة من الأصوات. تمنيت أن يقول كل الشعب نعم. ولكني شعرت بعد إعلان النتيجة بأنها أعظم من مائة في المائة. واعتقد ان العالم سوف يصدق هذه النتيجة أكثر كثيراً مما كان يصدقها لو كانت مائة في المائة. إنني لاحظت في المدة التي عرفت فيها أنور انه ليس معزولاً عن الشعب. كانت الناس تقول له ما كانت لا تجرؤ أن تقوله لأي عضو من أعضاء مجلس الثورة. ولقد أمضى في الحركات الشعبية أكثر مما أمضى في الحركات داخل الجيش. وهذا يجعلني أتفاءل بأنه سوف يضع إصبعه على نبض الجماهير. وسوف يهتم كثيراً بمشاكلها. وسوف يحاول فعلاً ان يرفع شعار سيادة القانون. وأن تدريجياً سوف يشعر بأنه يجب أن يفعل شيئاً في المسجونين السياسيين وفي المعتقلات. ولكن من طبيعتنا أننا مستعجلون.. نريد أن يفعل الحاكم كل شيء في وقت واحد. وطبعاً الناس معذورة في استعجالها... فهذا الشعب يحمل فوق رأسه مظالم ألوف السنين. ويريد أن يخلصه منها الحاكم في 24 ساعة. لا أريد أن أضع على عيني منظاراً وردياً، في الوقت الذي يغطي كثيرون عيونهم بنظارات سوداء. ولكن مؤمن بأن الحياة يجب أن تسير. مؤمن أن الشعب المصري هو الذي يخلق زعماءه، وليس الزعماء هم الذين يخلقون الشعب المصري. مؤمن أن هذه الكارثة سوف تعلم الدول العربية أن تمشي على أقدامها، بعد أن تعودت طوال 18 سنة أن يحملها عبدالناصر فوق كتفيه! الأطفال لا يتعلمون السباحة إلا إذا ألقيناهم في البحر.. وأنا أشعر أن هذا الشعب سيعوم... ولن يغرق أبداً! كم أتمنى أن نبذل من العرق ما بذلناه من الدموع. أن تعلو أصوات المصانع على أصوات النحيب والعويل. إنني أفضل أن تنشئ كل دولة عربية فرقة ميكانيكية في جيشها اسمها فرقة جمال عبدالناصر، على ان تقيم حفلات التأبين، وتطلق اسمه على الشوارع والميادين. وفي الختام أضمك الى صدري وأقبلك وابعث بقبلاتي وأشواقي الى خيرية وفاطمة ومنى وريتا والى اللقاء القريب بإذن الله. * صحافي لبناني حفظ الرسائل من مرحلة زمالته لعلي أمين في مؤسسة"دار الصياد"الصحافية في لبنان. نشر في العدد: 16954 ت.م: 04-09-2009 ص: 21 ط: الرياض