الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صباح 5 حزيران فتح الضابط باب زنزانتي وقال: لم تتحقق توقعاتك بهزيمة الجيش المصري (4)
نشر في الحياة يوم 06 - 09 - 2009

تنشر «الحياة» رسائل مصطفى أمين من سجنه المصري الى شقيقه التوأم علي أمين في لبنان كاشفة وجوهاً من علاقة الصحافي بالسلطة وصراعات أهل المهنة التي تصل أحياناً الى الاستعداء.
17 يوليو سنة 1971
أخي العزيزبعد أربعة أيام سأدخل السنة السابعة من سنوات سجني! وقد مضت حتى اليوم أكثر من ست سنوات منذ أن افترقنا. ولعلك تذكر أنني عندما ودعتك انفجرت ببكاء لم أعرف مثله طوال حياتي. أذهل المئات الذين كانوا يودعونك. فقد كنت أشعر في تلك اللحظة بشعور غريب لا أعرف سببه أن هذا وداع بلا لقاء! ويومها كتبت في أخبار اليوم كلمة تحت عنوان «كلمة من المحرر» عن فراقنا أبكت كل من قرأها! ويظهر أن الله كشف عني الغيب في هذه الكلمة، فرأيت ما لم يتصور أحد أنني سأراه! ولا أعرف ما الذي يجعلني أتذكر هذا المقال الآن! فأنت تؤكد لي أن تفاؤلك أصبح بلا حدود. وأنت تؤكد لي في آخر خطاب أن المسألة أصبحت قريبة جداً. وأشعر برغبة لا حدّ لها في أن أصدقك، ولكن لا زلت أتأرجح بين الفجر الذي تبشرني به وبين الظلام الذي أعيش فيه. ولقد سررت أنك الآن في بيروت، وخيل اليّ أنك اقتربت لتشمّ أخباري! ولتستطيع أنفك الصحفية أن تشم من بيروت وأحسن مما تشم من لندن. وأعتقد عندما يصل اليك هذا الخطاب سوف تعرف على وجه التأكيد اذا كنت لا أزال في المرجيحة، أم تركت المرجيحة، أم وقعت من المرجيحة!
ان التفاؤل يملأ الجو في هذا المكان. أخبار البشريات تتوالى! ولكن خبرتي الصحفية تجعلني أفرق كثيراً بين «الأماني» و «الأخبار»! وكل ما أسمعه حتى الآن ليس أكثر من أماني وتمنيات، ينقصه المصدر الموثوق به الذي يمكن الاعتماد عليه في مثل هذه الأنباء. ومنذ أيام زار السجن السكرتير الأول لسفارة اليونان في القاهرة وقابل القبطان نقولا – وهو قبطان ناقلة بترول يونانية حكم عليه بالسجن 15 عاماً بتهمة التجسس لاسرائيل وأمضى منها عاماً واحداً في السجن. وأبلغه أن الرئيس أنور السادات أصدر عفواً عنه، وسيفرج عنه غداً. وسأل السكرتير الأول عني، وقال إن معلوماته أنه سيفرج عني قريباً جداً! ولكن لا اطمئن الى أخبار اليونانيين... فأخبارهم دائماً مصدرها الجرسونات!! ثم أعود الى تأكيداتك القاطعة، وأقول لنفسي أنه لا يمكن أن تكون اعتمدت فيها على الإشاعات التي تملأ القاهرة، التي لا تزيد عن ان تكون تمنيات. ولا بد أن لديك تأكيدات لا تقبل الشك، وأعود فأطمئن الى هذه التأكيدات، وأعيش عليها، وأعد الأيام في انتظار تحققها، ولا أتصور أن تكون مخدوعاً هذه المرة. فقد شعرت وأنا أقرأ خطابك أنني أقرأ أخباراً مؤكدة لا أقرأ أحلاماً وتمنيات!
والناس كلها تقول إن الرئيس سيعلن أخباراً سارة للشعب في 23 يوليو، وتجمع أن هذه الأخبار السارة هي الإفراج عن جميع المسجونين السياسيين. وبعض الناس يؤكدون أن الرئيس وقّع القرار! وبعضهم يقول إن القرار أُعد ولا ينقصه الا التوقيع. وذهبت أسرة زميل لنا الى محمد أحمد وزير القصر وقدمت له التماساً بالإفراج عن ولدها. فقال الوزير إنه لا داعي لهذا الالتماس لأن الرئيس قرر الإفراج عن جميع المسجونين السياسيين، لكن أستقبل كل هذه الأنباء بتحفظ شديد، وأخشى أن يكون المقصود منها رفع الروح المعنوية لبعض المسجونين الذين هم في حالة انهيار شديد، بسبب القلق والحيرة، وعجزهم عن معرفة الأخبار الصحيحة. وقيل في رواية أخرى إن الإفراج سيكون على ثلاث دفعات، دفعة تخرج في 23 يوليو لمناسبة عيد الثورة ودفعة تخرج في سبتمبر لمناسبة الدستور، وتخرج الدفعة الأخيرة في نوفمبر لمناسبة العيد الصغير. وكل هذه الأخبار بفلوس اليوم، وبعد أقل من أسبوع ستصبح مجاناً!
ولم يصلني منك خطاب هذا الأسبوع. وأعتقد أن الخطاب سوف يكون من بيروت. وأنني في أشد الشوق لأن أعرف ماذا فعلت في بيروت. ومصيبتي الكبرى أن كل مسؤول في السجن يقع في يده خطابك يريد أن يقرأه ويستمتع به، ويقرأه لزوجته أو لحبيبته... وبهذا يتأخر وصول الخطاب إليّ! ويجب أن تطمئن أن لك قرّاء ومعجبين من المشرفين على السجن وفي مصلحة السجون وغيرها، ينتظرون خطابك كما كانوا ينتظرون فكرة في كل صباح في الأخبار!
وأنا لا أعرف أين ستقرأ هذا الخطاب؟ هل ستقرأه في بيروت، أم سوف تقرأه عند عودتك من لندن! وهل ستقرأه وأنا لا زالت في السجن أم ستقرأه وأنا أستمتع بالحرية؟!
لقد أرسلت ليّ ريتا هذا الأسبوع خطاباً مطولاً تعتذر فيه عن تفكيرها الخاطئ، وتقول إنها اكتشفت أنها كانت «عبيطة» و «هبلة». وقالت إنها ستدخل جامعة القاهرة، وإنها لن تعود الى لندن، وإن هذا قرارها النهائي! ولا أعرف حتى الآن هل هي صادقة في توبتها، أم انها تريد أن تضحك «عليّ»! ومع ذلك فقد قبلت اعتذارها لكن لا أسد أمامها باب التراجع. ولكنني وافقت فقط على السفر الى لندن بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة في آخر هذا الشهر. ومرة أخرى أشكرك على هذا الحزم الذي أظهرته في هذه المسألة.
تسلمت من المصلحة هذا الأسبوع خطابك 21 – المؤرخ في 13 يونيو الذي قلت فيه «وأخيراً قررت أن أذكر ولاة الامور بقلمي السجين. فقررت أن أكتب وعاد أصدقاء أعزاء يلحون عليّ ان أنتظر فترة قصيرة أخرى. وقد مضى على هذه الفترة ما يزيد على اسبوعين وسأنتظر اسبوعاً ثالثاً، وبعدها سأكتب، وأنا واثق أن كتابتي ستذكر ولاة الامور بالقلم السجين، وبكل سجين آخر». ونحن الآن في 17 يوليو، أي مضى حوالى خمسة أسابيع على نهاية المهلة ولم نكتب شيئاً! وخطاباتك التالية لم تذكر كلمة واحدة عن عدولك عن قرارك النهائي بالكتابة. وقد فهمت من عدم كتابتك ان لديك أخباراً مؤكدة بأن الفجر أصبح مسألة أيام، ولهذا لم تشأ أن تكتب، حتى لا يتعلل أحد بأن كتابتك هي التي أخرت ظهور الفجر! ولا أظن أن أي سبب آخر يمكن أن يعدل عن هذا القرار النهائي!؟
أخشى أن أكون الوحيد بين زملائي هنا الذي لم يفقد عقله حتى الآن! بعض الزملاء أرسلوا في إحضار ملابسهم من بيوتهم، ليخرجوا بها يوم تتم الافراجات! آخرون بدأوا يبحثون في الاعلانات المبوبة عن الوظائف الخالية! العزّاب منهم أرسلوا الى أسرهم يطلبون منهم أن يعدوا لهم «العرايس»! زميل طبيب أرسل الى زوجته يطلب منها أن تدهن الشقة! كل واحد منهم يشمر عن ساقيه قبل أن يرى البحر! يبيع جلد الذئب قبل صيده! يحمل المظلة قبل أن تشرق الشمس!... وهكذا ترى أنني أعيش في جو وردي، وخاصة أن أغلب المسجونين يحلمون من أجلي، وكل أحلامهم تجمع على أنه سيتم الإفراج عنّا خلال أيام! وكل الموظفين والأطباء والضباط والحراس يؤكدون لي كل يوم أنه سيفرج عني في القريب! وكل هذا الكلام لا يؤكد لي شيئاً كلامك وحده هو الذي يؤكد لي كل شيء! هو العملة الذهبية وسط العملات الزائفة التي تنهال عليّ! وأنني أعيش أيامي على هذه العملة الصحيحة! لعلك تذكر المسجون «شنبو» الذي كان يعكنن علينا الحياة هنا بتلفيقاته وبلاغاته الكاذبة وادعاءاته المخترعة. وقد عوقب على أكاذيبه فنقلوه الى سجن الاسكندرية وهناك استمر في تلفيقاته على الأبرياء، فعاقبوه بالنقل الى سجن طنطا!.. وهناك ضاعف من تلفيقاته ومكائده فقرروا معاقبته بنقله الى ليمان طرة!!! وما كاد المسجونون في العنبر يعلمون بوصوله الى هنا حتى جن جنونهم! توقعوا أياماً كلها نكد وتلفيقات وأكاذيب وعكننة! قالوا كنا ننتظر في هذه الأيام السعيدة ان تجيء لنا أنباء الإفراجات فإذا بالذي يجن نبيل متولي... أن شنبو!
وعاش الجميع في مأتم! واسودت الدنيا في وجوههم، واعتبروا إحضاره ليعيش بيننا هو عملية تعذيب يومية يتعرض كل واحد منا لها!
ويظهر أن الله أشفق على هؤلاء المسجونين في محنتهم، فألهم «شنبو» أن يعضّ إصبع أحد الحراس! وانهال عليه الحراس ضرباً، وتقرر وضعه في «التأديب» لمدة شهرين! ومعنى ذلك ان لا نراه، ولا يرانا! واذا أكمل الله فضله وخرجنا من الجحيم قبل مرور هذين الشهرين فقد أراحنا... والا فستكون كل أيامنا «هباب»!
أرجو أن تكون قد نجحت أثناء اقامتك في بيروت في اجراء عملية جراحية للصياد. فإنني لا زلت على رأيي بأن مجلة الحوادث متفوقة عليه تفوقاً ظاهراً. وقد لاحظت أن الاسبوع العربي، قد ضعف عما كان. لعلك عرفت ان عثمان العبد قد انتخب عضواًَ في مجلس ادارة أخبار اليوم، وأن بهاء انتقل للأهرام. واعتقد أنه لا بد ان حالة بهاء المعنوية سيئة جداً بعد نقله الى روز اليوسف، وأنه الآن في اجازة يستريح من هذه الصدمة. وفي الختام اضمك الى صدري، واقلبك والى اللقاء القريب بإذن الله.
الرسالة السادسة
الواضح والثابت في هذه الرسالة انها مكتوبة بخط يد مصطفى امين وبحبره، وأنها موجهة مباشرة الى توأمه «علي». إذ هي تبدأ ب «أخي العزيز». لكن، بعد هذه العبارة، تأخذ الرسالة ضمير كاتب آخر، وهذا ما يكشف انها نص مكتوب كان مصطفى يريد نشره خارج مصر وأن يكون هو براء منه.
ويبدأ هذا النص بعبارة «كان ذنبه عند مراكز القوى انه يتكلم...!». وقد شطبت هذه العبارة، لكنها ظلت مقروءة مع تاريخها، وتحمل الصفحة الأولى من النص الرقم (84).
وفي ما يلي النص كما هو مكتوب في الأصل بخط يد مصطفى أمين، وعن السجين مصطفى أمين، ولكن بضمير كاتب آخر، ويدور حول مقدمات حرب 1967. ومسؤولية قيادة القوات المصرية والصحف المصرية في الهزيمة:
دخل السجن بعد ان عذّب وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولا يزال يتكلم! لقد ظنوا عندما وضعوه في الزنزانة وأقفلوا عليها بابها 18 ساعة كل يوم انهم قطعوا لسانه الى الأبد. وفوجئوا به لا يزال يتكلم على رغم الأغلال والسلاسل والقيود!
وكانت حجة اصحاب مراكز القوى الذين كانوا يعارضون الإفراج عنه هي: إذا كان لا يزال يتكلم وهو داخل السجن، فماذا سيفعل عندما يخرج من السجن! الواقع ان إصراره ان يتكلم هو الذي جنى عليه. فلقد كان كل من حول الرئيس جمال عبدالناصر يعرفون انه احد ثلاثة أشخاص اعطاهم الرئيس حق الاتصال به مباشرة في أي ساعة من ساعات الليل والنهار. وأعطاه رقم تلفونه السري في مكتبه في البيت، وتلفونه السري الذي كان يضعه بجوار مخدعه. وكان الرئيس يتصل به يومياً، وكانت المحادثات التلفونية تستمر بين الساعة والساعتين. وكان الذي حول الرئيس جمال عبدالناصر يعلمون تمام العلم ان مصطفى يقول للرئيس كل شيء. وكثيراً ما اتفقت الأجهزة في ما بينها ان تخفي شيئاً عن الرئيس لمصلحة احد اصحاب مراكز القوى، وإذا بالرئيس يفاجئهم بأنهم اخفوا عنه ما كان يجب ان يعلمه ولا يتردد ان يقول صراحة انه علم الحقيقة من مصطفى!
وكانت حجة مصطفى ان واجبه ان يصارح الرئيس بالمساوئ التي تحدث في الخفاء. ولو كانت الصحافة حرة، لكتب كل شيء في جريدته لتصل الحقيقة الى الحاكم، أما والصحافة مقيدة، فواجبه ان يقول لرئيس الجمهورية ما كان يجب ان ينشره على صفحات جريدته. فلم يتردد مثلاً ان يقول للرئيس إن احد كبار رجال الدولة انتهز إشرافه على إحدى المؤسسات فعين في المؤسسة زوج ام زوجته وأختها وابن عمه ومعلمة أولاده وخطيب اخت زوجته واثني عشر من أقاربه! وقد كان هذا الكبير تحميه الأجهزة، فلا تبلغ رئيس الجمهورية شيئاً من تصرفاته! وقدم مصطفى كشفاً بأسماء الأقارب والمرتبات الخيالية التي حصلوا عليها!
وكان ان أصدر الرئيس أمراً بإبعاد هذا الكبير عن هذه المؤسسة!
وحدث مرة ان أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قراراً بوقف رئيس تحرير احدى الصحف اليومية عن عمله. وذهب مصطفى وقابل الرئيس في داره في منشية البكري وسأله عن سبب هذا القرار، فقال الرئيس إن السبب أن رئيس التحريري هذا ألف جمعية لتبادل الزوجات، وأن لدى الرئيس عقداً بتوقيع رئيس تحرير تلك الجريدة وبخطه، يتعهد بأن يبادل زوجته مع زوجات أعضاء الجمعية!
وقال له مصطفى إنني أعرف رئيس التحرير هذا جيداً، وقد عمل معي محرراً حوالى عشر سنوات، وأنا أعرف كل تصرفات الذين يعملون معي، ولم أجد فيه أي شبهة طوال عمله معي.
قال الرئيس ضاحكاً: ربما قد فسدت اخلاقه بعد ان خرج من عندك.
قال مصطفى: من المستحيل ان يفعل هذا، ثم انني أعرف زوجته وهي سيدة محترمة وكبيرة في السن، وليست جميلة على الإطلاق ولا يمكن ان تفعل ذلك.
قال الرئيس: ان صلاح نصر مدير المخابرات حقق في هذه المسألة وثبت ان التعاقد بخط رئيس التحرير هذا. وأنا لا يمكن ان أقبل ان يكون رئيس تحرير جريدة من جرائدي بهذا الانحطاط.
قال مصطفى: لا يمكن للذين يؤلفون جمعية بهذا الانحطاط ان يكتبوا عقداً مكتوباً ويوقعوه!
قال الرئيس: أنا لا أعرف في مثل هذه الأمور! ان هذه مسائل وسخة ولا أعرف تقاليدها!
قال مصطفى: ان لي رجاء وهو ان تختار انت بنفسك خبيراً في الخطوط وسيؤكد لك ان هذا ليس خط رئيس التحرير.
قال الرئيس: وإذا ثبت ان هذا خطه وهذا هو توقيعه!
قال مصطفى: أقدم استقالتي وأعتزل الصحافة.
قال الرئيس: وما ذنبك انت؟ انت غير مسؤول عن رئيس تحرير جريدة أخرى.
قال مصطفى: بل أنا مسؤول، فهذا هو أحد تلاميذي، وإذا ثبت ان هذا خطه فمعنى ذلك انني أدخلت الى صحافة بلادي رجلاً لا يستحق الشرف.
قال الرئيس: أعدك بأن أفعل ذلك.
قال مصطفى: ليس من طريق صلاح نصر؟
قال الرئيس: ليس من طريق صلاح!
وجاء خبير الخطوط الذي اختاره الرئيس من طريق وزير العدل، وثبت ان هذا العقد ليس بخط رئيس التحرير المظلوم وليس بتوقيعه!
وأصدر الرئيس جمال عبدالناصر على الفور قراراً بإعادة رئيس تحرير الجريدة الى عمله! وإذا بعقد جمعية تبادل الزوجات يتكشف عن فضيحة أكبر! فقد ذهب مصطفى الى الرئيس وأبلغه انه قام بنفسه بتحقيق وثبت ان شقيقة احد اصدقاء صلاح نصر أحبت رئيس التحرير، في الوقت الذي كان يحبها احد ضباط صلاح نصر!
وذهب رسول من صلاح نصر ينصح رئيس التحرير بأن يقطع علاقته الغرامية فوراً بالسيدة الفاتنة الحسناء!
ولكن الفاتنة الحسناء تشبثت برئيس التحرير، وداومت على الاتصال به، وداست على قلب ضابط صلاح نصر المفتون! وفضلت رئيس التحرير الصعلوك، على واحد من الملوك! وهنا تقرر الخلاص من رئيس التحريري، فلفقت عليه حكاية جمعية تبادل الزوجات، وزوّر العقد المزعوم بتوقيعه!
وجن جنون مراكز القوى لأن مصطفى «تكلم» وقال للرئيس ما لا يجوز ان يقال، وأفسد القضية الخطيرة التي تضافرت كل القوى على تلفيقها!
ولقد تألبت القوى على التخلص من مصطفى. وكانت كل يوم تدبر له المكائد للقضاء عليه. وكان يحدث ان يغضب الرئيس عليه، ويبعده، ثم يحقق بعد ذلك بنفسه الوشاية، فتثبت براءته، فيعود ويقربه من جديد!
وحدث قبل القبض عليه بمدة أن قال له سامي شرف.
- إن الذين يحبون الرئيس اتفقوا في ما بينهم ان لا يخبروا الرئيس بالأخبار السيئة، لأنها تضايقه وتؤثر على صحته، فإذا كان لديك أخبار سيئة عما يجرى في البلد، فلا تخبره بها، وأخبرني أنا بها. وأنا سأتصرف.
قال مصطفى: إنني اعتقد انه اذا كانت الأخبار السيئة ستضايق الرئيس، فإن إخفاء الحقيقة عنه ستقتله! الرئيس يقول لي دائماً انه يريد ان يعرف الحقيقة، ولا أستطيع ان أكذب عليه.
ودخل مصطفى السجن، وأعتقد الذين وضعوه في السجن أنهم ضمنوا ان لا يتكلم، ولا يفتح فمه الى الأبد.
وحدث في شهر أيار (مايو) 1967 أن بدأت مصر تحشد جيوشها في سيناء. ودقت الإذاعات العربية طبول الحرب. وتحدث القواد العرب عن استعداد الجيش المصري لسحق إسرائيل.
وجلس مصطفى في زنزانته مع عدد من المسجونين بينهم المسجون عيد العربي ومحمد الكيلاني وقال إنه يعارض تحرّك قواتنا الى سيناء، وأن هذا فخ منصوب، وإن القيادة العسكرية الموجودة أعجز من ان تنتصر في هذه المعركة، وإنه يتوقع ان تحدث كارثة مؤكدة!
وتناقل المساجين ما قاله مصطفى، وبلغ الأمر الى مدير الليمان، فاستدعاه وقال له:
- كيف تقول إن الجيش المصري سيقع في فخ ويهزم.
- إن معلوماتي تذكر أن قياداتنا لا تصلح. وأنها لا تهتم بالجيش، وأنها لا يمكن بحالتها الراهنة ان تنتصر في هذه المعركة.
- ولكن هذا كلام خطير.
- إنني أقدر خطورته.
- ألم تقرأ الصحف، إنها كلها تجمع على أننا سنصل الى تل أبيب في ثلاثة أيام، وأن ام كلثوم ستغني في تل ابيب.
- إنني أعلم تمام العلم أنهم يبالغون للرئيس في قوة جيشنا ويبالغون في ضعف الجيش الإسرائيلي. وإنني طالما حذّرت وأنذرت بأن تقارير مخابرات صلاح نصر كاذبة ومقصود بها تضليل الرئيس... وهذا هو سبب وجودي هنا في هذا الليمان.
- ولكن لا يجوز ان نقول إن الجيش المصري سيهزم.
- واجبي أن أحذر بلدي من الخطر المؤكد الذي أراه، وسأبقى أحذر من دخول هذه المعركة، وحشد الجيوش بغير استعداد حقيقي، وسأبقى أحذر الى ان ندخل الحرب فعلاً. وإذا دخلت بلادي الحرب فسوف أؤيدها، وسأكتب يومها الى الرئيس عبدالناصر أؤيده، وأدعو له بالنصر، وأضع كل خبرتي وكفايتي وجهدي في خدمة المعركة.
- ولكن هذا الكلام خطير... ويمكن ان يبلغ المسؤولين ويسيء إليك.
- إنني اريد ان يصل الى المسؤولين، وأعرف ان للأجهزة عيوناً هنا، وقد تعمدت ان اقول هذا الكلام لأنني أريد ان انبه بلادي الى الكارثة التي ستقع فيها. إنني أرى الهزيمة من هنا! من زنزانتي.
وفي صباح يوم 5 حزيران (يونيو) قامت المعركة. وصدرت الأوامر بإعلان حالة الطوارئ الكبرى في ليمان طره، ومنع جميع المسجونين من الخروج من زنزانتهم، وأقفلت على مصطفى زنزانته. وفجأة فتحوا باب الزنزانة، ودخل الرائد كمال الدين الضابط في السجن وقال له:
- أمرني سيادة المدير ان ابلغك انه صدر بلاغ حرب بأننا أسقطنا ثمانية طائرات اسرائيلية وتوغلت قواتنا في إسرائيل. ومعنى ذلك ان نبوءتك بهزيمة الجيش المصري لم تتحقق!
قال مصطفى: أتمنى من كل قلبي لو كان هذا البلاغ صحيحاً. ولكنني أعرف للأسف الشديد ان القيادة تكذب على الشعب وتكذب على الرئيس.
وقد مكثت تضلله اكثر من عشر سنوات! ومع ذلك أتمنى أن أكون فقدت حاستي الصحافية في السجن، وأن أكون مخطئاً في تقديري. ومع ذلك فإنني متمسك بكل كلمة قلتها. ولكنني أعد المدير أن لا أفتح فمي بكلمة طوال المعركة.
وفي يوم 9 حزيران أعلن الرئيس عبد الناصر نبأ الهزيمة...
وفوجئ المسجونون برؤية مصطفى يبكي، لأن النبوءة التي قالها تحققت بحذافيرها!
* * *
وقبل المعركة بأيام وصلت الى مصطفى نسخة من جريدة ال «ديلي تلغراف» الإنكليزية، وكانت الصحف الأجنبية والعربية تصل الى مصطفى في السجن بانتظام.
وقرأ مصطفى مقالاً للمعلق العسكري ويلسون يتنبأ فيه بأن خطة إسرائيل هي ان يهاجموا بطائراتهم فجأة المطارات المصرية ويدمروها.
وقال مصطفى لضباط السجن:
- لو كنت خارج السجن الآن، لاتصلت بالرئيس عبدالناصر تلفونياً وقرأت على الرئيس هذا المقال وقلت له ان هذه هي الخطة التي ستتبعها إسرائيل في الهجوم.
قال الضابط: وما يدريك ان هذه هي الخطة الحقيقية، وهل معقول ان تنشر اسرائيل خطتها السرية.
قال مصطفى: إنني أعرف كثيراً عن هذا المراسل. وأعرف انه على اتصال بالمخابرات العسكرية البريطانية، فأنا لا أحكم على الخبر قبل أن أعرف من هو الكاتب، وما هي قيمته. ولهذا فأنا أشم بخبرتي الصحافية ان هذا خبر صادق مئة في المئة. وكل ما أرجوه ان يكون بجانب الرئيس عبدالناصر من يقوم بالعمل الذي كنت اقوم به، ويتصل به على الفور ويبلغه بما نشرته الجريدة، وقيمة هذا المحرر العسكري الحقيقية.
وبعد أيام وقع الهجوم على المطارات المصرية بنفس الطريقة التي حددها المراسل العسكري للديلي تلغراف!
ومن العجب أن القيادة العسكرية فوجئت بهذا الهجوم... لأن أحداً في الأجهزة لم يقرأ الديلي تلغراف، أو قرأ مقال المحرر العسكري، ورمى به ساخراً في سلة المهملات.
* * *
وأثناء الحشد العسكري في سيناء فوجئ مصطفى باستدعائه الى مكاتب السجن، وأبلغوه ان مندوباً من رياسة الجمهورية يطلب منه على الفور ان يوقع إقراراً فقرأ مصطفى الإقرار وذهل!
انه إقرار يعلن فيه مصطفى انه يتنازل عن شقته في الزمالك!
وسأل مصطفى عن السبب؟
وقيل له ان احد كبار الضباط الذين يحملون رتبة فريق في الجيش المصري، تفرج على شقته ويريد ان يسكنها!
قال مصطفى: غريبة! كنت أتصور ان كبار ضباطنا في غرف العمليات، لا يبحثون عن شقق، وكنت أتصور انهم يضعون خطة للاستيلاء على إسرائيل، لا يضعون خطة للاستيلاء على شقة!
قالوا: إن مصلحتك ان توقع على هذا الإقرار بالتنازل عن الشقة فوراً، لأنها مسألة تهم رئاسة الجمهورية جداً!
قال مصطفى: لو علم رئيس الجمهورية أن احد كبار ضباطنا يترك المعركة ليبحث عن شقة فسيفصله فوراً!
وأمسك مصطفى بقلمه وكتب على الإقرار المطلوب، انه يرفض ان يتنازل عن الشقة التي سكنها لمدة 19 سنة.
وفي يوم 10 حزيران أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قراراً جمهورياً بإحالة عدد من كبار ضباط الجيش المصري الى المعاش، وكان من بينهم الفريق الذي كان مشغولاً اثناء الإعداد للمعركة بالبحث عن شقة!
ولهذا كانت مراكز القوى تشكو من مصطفى لأنه يتكلم... حتى وهو في داخل زنزانته.
* صحافي لبناني حفظ الرسائل من مرحلة زمالته لعلي أمين في مؤسسة «دار الصياد» الصحافية في لبنان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.