لاقت مؤلفاتُ الإمامِ البخاري القبول بين المسلمين الصالحين الأتقياء، وامتازت مؤلفاته بالدِّقة وتحرّي الصّحيح من السُّنّة النبويّة المطهّرة، وكان البخاريُّ مُنصفاً في مؤلفاته التاريخية أيضاً، صادقا في أقواله إضافةً إلى ما امتاز به من ذكاء حادًّ، وذاكرة قوية، وصبر على العلم ومثابرة في تحصيله، ومعرفة واسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله من تعديل وجَرْيح، وخبرة تامة بالأسانيد لمعرفة صحيحها وسقيمها. وقد صنَّف البخاري ما يزيد عن عشرين مصنفًا، أشهرها: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسُننه وأيامه، المعروف بالجامع الصحيح، أو صحيح البخاري. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: تَارِيْخُ البُخَارِيِّ، يَشْتَمِلُ عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِيْنَ أَلفاً وَزيَادَةً، وَكِتَابُهُ فِي الضُّعَفَاءِ دُوْنَ السَّبْعِ مائَةِ نَفْسٍ، وَمَنْ خَرَّجَ لَهُم فِي صَحِيْحِهِ دُوْنَ الأَلفينِ. قَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الحَازمِيُّ، ف صَحِيْحُهُ مُخْتَصرٌ جِدّاً. وَقَدْ نقل الإِسْمَاعِيْلِيُّ عَمَّنْ حَكَى عَنِ البُخَارِيِّ، قَالَ: لَمْ أُخرِّجْ فِي الكِتَابِ إِلاَّ صَحِيْحاً. قَالَ: وَمَا تركتُ مِنَ الصَّحِيْحِ أَكْثَرُ. وقد قال بعضهم: صَحِيْحُ البُخَارِيِّ"لَوْ أَنْصَفُوهُ * لَمَا خُطَّ إِلاَّ بمَاءِ الذَّهَبْ هُوَ الفَرْقُ بَيْنَ الهُدَى وَالعمَى * هُوَ السَّدُّ بَيْنَ الفَتَى وَالعَطَبْ أَسَانِيْدُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ * أَمَامَ مُتُوْنٍ كَمِثْلِ الشُّهُبْ بِهِ قَامَ مِيْزَانُ دِيْنِ الرَّسُوْلِ * وَدَانَ بِهِ العُجْمُ بَعْدَ العَرَبْ لم يأت تأليفُ صحيح البخاري من فراغ بل هو ثمرة مجهود عمل متواصل مدّة ست عشرة سنة، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث. ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: كنت عند إسحاق ابن راهويه، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع"الجامع الصحيح"وعدد أحاديث الكتاب 7275 حديثاً، اختارها البخاريُّ من بين ستمئة ألف حديث وصلت إليه من المحدثين، وسببُ اقتصاره على هذا العدد هو أنه كان مدقِّقاً في قبول الرواية، واشترط لتأليفه شروطاً خاصة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصراً لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع. وقد ابتدأ البخاري تأليف الجامع الصحيح في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ولم يتعجل في إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرات عديدة، فصنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة الثالثة التي أخرجها البخاري للناس، فاستحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه، بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب إسلاميّ بعد كتاب الله تعالى. ولذلك حظي بشروح عديدة، وتُرجم الى العديد من اللغات العالمية الحية. واهتمّ النسّاخ بكتابة مخطوطات نفيسة من صحيح البخاري، ولذلك نجد مخطوطاته منتشرة في مكتبات التراث العربية والعالمية، وبعض تلك المخطوطات مكتوبة بخطوط العلماء الأجلاء، وبعضها مُهداة إلى الملوك والسلاطين والوزراء والأمراء، ومن أشهر تلك المخطوطات مخطوطة صحيح البخاري التي كانت للشيخ اليونيني المنسوب إلى البلدة اللبنانية يونين التي تبعد عن مدينة بعلبك -مركز القضاء- لجهة الشمال حوالى 17 كيلومتراً، وتبعد عن مدينة زحلة - مركز المحافظة - حوالى 52 كيلومتراً. ونظراً لما امتازت به مخطوطة اليونيني من دقة فقد أمر أميرُ المؤمنين السلطان عبدالحميد الثاني بنشر طبعة وقفية ذات قطع موسوعي من صحيح البخاري مقابلة مع المخطوطة اليونينية، وكلف شيخ الإسلام محمد جمال الدين بالإشراف على تلك الطبعة مع المقررين: السيد عبدالقادر راشد، وإسماعيل حقي، وحسن حلمي، ووكيل الدروس أحمد عاصم، وعضوي مجلس مصالح الطلبة: السيد أحمد نظيف، والسيد إبراهيم نوري، وجاء في ختم الوقف السلطاني الذي مُهرت به نسخ تلك الطبعة: قد أمر بوقف هذا الكتاب الشريف على علماء الدين المحمدي الحنيف خليفة رسول الله أمير المؤمنين السلطان الغازي عبدالحميد الثاني بن السلطان عبدالمجيد خان الغازي طالباً به رضى الله الكريم، أطال الله عمره، وأدام بالنصر والتوفيق خلافته 1313. وقد تم تصوير تلك الطبعة من بعض دور النشر العربية والعالمية. وأحدث طبعة مصورة عن الطبعة السلطانية الحميدية هي الطبعة الثانية المصححة والمزيدة الصادرة سنة 1430 ه/ 2009م عن دار المنهاج في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، وتقع في 1832 صحيفة، وعدد ألوان الطباعة: لونان، ووزن النسخة الواحدة: 7335 غ. وقد عني بهذه الطبعة: الدكتور محمد زهير بن ناصر الناصر. وقد عرّف الناشرُ بهذه الطبعة فقال: لقد أجمع أهل العلم في كلِّ عصر ومِصْر: أنَّ" صحيح البخاري "أصحّ كتاب تحت أديم السَّماء بعد كتابِ الله تعالى، فليس فوقه إلاّه، ودونه ما عداه. لذلك كان هذا الكتاب المبارك ممَّا توافر على قراءته وتدريسه أولو العلم قاطبة ، إدراكاً منهم بعظم مكانته، وكثرة فوائده، ولِمَا له من أهميَّة كبرى ، فهو في باب السُّنَّة عظيم الجدوى، لاشتماله على جَمْع الأصحّ والصحيح، ولا سيَّما أن مؤلِّفه أمير المؤمنين في الحديث. ونظراً لما للطبعة الأميريَّة من مزيَّة، إذ هي أصحُّ الطَّبعات وأجلّها في هذه الأزمان، باتِّفاق أهل الحذق والإتقان... رأينا إعادة طبعها، ولكن مع ضمِّ مزايا أُخرى إليها، ليجتمع في هذه الطَّبعة من الفوائد المنتقاة، والجواهر المتصيَّدة ما لا يوجد في غيرها من الطَّبعات الأُخرى. أضف إلى ذلك: أنَّ هذه الطَّبعة اعتمدت على أصل عظيم تواطأ المُحَدِّثُون على دقَّته وضبطه، وهو نسخة الحافظ اليُونيني رحمه الله، إضافة إلى مزايا جمَّة، تتلألأ بها صفحات هذا الجامع المبارك، وليس من المبالغة إذا قلنا: إن هذه الطَّبعة هي واسطةُ العقد بين الطَّبعات، لاشتمالها على فوائد مهمَّات، وإشارات جليَّات، مع أناقة الطَّبع، وجودة الإخراج.