كانت سحب الدخان تتلاشى وهدير المدافع يتوقف في حرب أكتوبر 1973. في اليوم التالي كانت حروب الجدل العربي تندلع من المحيط الى الخليج. ذات مساء ينايري من العام 74 وعلى ضفاف نيل الخرطوم الذي بدا كعهده هادئاً الى حد الرتابة دارت ندوة في مبني جامعة القاهرة فرع الخرطوم. كانت الندوة حول الدروس المستفادة من الحرب التي كانت أشبه بزلزال فاجأ الجميع. قال المفكر الديني موجهاً حديثه الى الجمهور هل تعرفون لماذا انتصرنا في حرب أكتوبر؟ سكت برهة ثم أردف قائلاً لقد انتصرنا لأن الله كان معنا. هبّ مصطفى المعيد اليافع الذي أصبح بعد ثلاثين عاماً عميداً لإحدى الكليات في مصر متساءلاً هل معنى ذلك أن الله كان معنا حتى 16 أكتوبر يقصد تاريخ حدوث الثغرة الشهيرة وتوقف تقدم القوات المصرية ولم يكن معنا بعد هذا التاريخ؟ لم يكن الشاب الذي يؤدي صلواته الخمس كل يوم يقصد أكثر من الاعتراض على إقحام الدين في مسائل فنية تتطلب إعمال العقل والتخطيط. فما كان من المفكر الديني إلا أن قال بصوت عال، محتد وغاضب، ما هذا الذي أسمعه؟ هل ما زال في الجامعة ملحدون حتى اليوم؟ هكذا في جملة واحدة، حاسمة وباترة، تم تصنيف الشاب الذي يتحدث عن العقل والتخطيط في زمرة الملحدين! *** كانوا مجموعة من زملاء العمل يلتقون حول مائدة واحدة بعد نهار عمل شاق. ازدحمت المائدة بأكواب عصير البرتقال والقهوة والبيرة. دار النقاش حول مواضيع شتى من السياسة الى الاقتصاد حتى كرة القدم. ومن ديكارت الى الغزالي مروراً بنجيب محفوظ ومحمود درويش لكن ظلت اللحظة رائقة والصحبة ممتعة. إنسلّ أحد الحضور مغادراً في هدوء وصمت. عاد بعد قليل ليشارك في الحوار الدائر. باغته أحد الحاضرين بسؤال ترى أين ذهبت فجأة؟ تردد للحظات ثم أجاب في عفوية كنت أؤدي صلاة المغرب في أحد الأركان. أطلق رجل ذو شارب كث وجثة ضخمة ضحكة عالية قائلاً بصوت ساخر ما هذا بحق السماء؟ هل تسلل إلى صحبتنا أحد الأصوليين من دون أن ندرى؟! ساد الجلسة صمت عابر مطبق. امتدت يد نحيلة لترشف ما تبقى في قدح القهوة. بدا مذاق القهوة في الفم أكثر مرارة! تداخلت الأشكال والخطوط الملتصقة بقاع"الفنجان"الفارغ وكأنها تحتاج لقارئ يستطلع مستقبل الأيام المقبلة. *** لم يوصف يوماً بالإلحاد ولا الأصولية، ولم ينتم لحزب أو جماعة أو تيار. كان مسكوناً بحلم البحث عن عالم جديد، مشدوداً بخيوط ضوئية الى آفاق بعيدة قصيّة. يبقى لخمس ساعات متواصلة يقرأ ويكتب بحكم تخصصه العلمي الصارم. يمسح وجهه بدفقة ماء ويصلي. تجتاحه فرحة غامضة وهو يستمع لأغنية قديمة عن وطن يكبر يوماً بعد يوم أو عن سد عال يتدفق منه الضوء ويحمي الناس من الطوفان. كان يؤمن أن الحقيقة أعقد من اختزالها في قالب جامد محدد وأكبر من أن يحتكرها أحد. كان انتماؤه لمجموعة قيم ومبادئ بأكثر مما كان لقوالب فكرية أو أحزاب سياسية أو جماعات دينية. هكذا آمن بالفهم الإسلامي للإخاء الإنساني، وآمن بالعدالة الاجتماعية، والديموقراطية، والعروبة، والعقل النقدي، وحقوق الإنسان. لم يكترث كثيراً لسؤال كيف يكون تصنيفه السياسي في ضوء انتمائه لهذه القيم والمبادئ؟ كان اكتراثه الأكبر ومعاناته الأشد يوم يظهر مقاله الأسبوعي وقد حذف بعضه وتشوّه البعض الآخر. كأن الحذف اجتزاء لضميره والتشويه إيذاء لروحه. حاول الاستفسار يوماً متسائلاً لماذا؟ قيل له بصوت ضاحك لأنك رمادي اللون! سأل ثانية وما معنى أن يكون المرء رمادياً؟ قيل له حين لا يمكن تصنيفه. بدت الدعابة سوداء عن تهمة رمادية! راح يعبر الشارع المزدحم الخانق يحاصره سؤال فيما إذا كان الناس يحيون حقاً وهم مختنقون؟ * * * كيف يتم تصنيف البشر والكشف عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية؟ هل الانضمام الى حزب أو جماعة أو تيار يكفي لمعرفة من نحن؟ هل القوالب الفكرية والتنظيمات الحزبية والتصنيفات السياسية هي التي تدمغنا بهذا الانتماء أو ذاك أم أننا ننتمي في الجوهر الى مجموعة من القيم والمبادئ؟ وهل أصبحنا نضيق بانتماءاتنا فيوزع البعض صكوك الإيمان ويشهر البعض الآخر تهم الأصولية والإرهاب؟ لماذا لا أحد يحتمل فكر أحد في هذا العالم العربي واسع الأرجاء ضيّق الخيال؟ ثم هل تبدو فكرة تصنيف انتماءات البشر في ذاتها فكرة سائغة وعادلة؟ في مراحل تاريخية سابقة، ومنها ما هو حديث، كان الانتساب لحزب أو جماعة أو تيار كاشفاً في ذاته عن حقيقة الانتماء السياسي للمثقف، بل وكان هذا الانتماء السياسي كافياً بذاته لأن يستوعب مجموعة انتماءات أخرى فكرية واجتماعية وثقافية. حدث هذا على سبيل المثال في ظل الحقبة الاشتراكية التي سادت الكثير من دول العالم. يومها كان الانتماء للفكر الرأسمالي والفكر الاشتراكي كافيين لتصنيف المثقف إذ كان كل منهما يتضمن مجموعة من القيم والمبادئ المغايرة عن الآخر. وكان لكل من الفكرين رؤية متميزة للعالم والمجتمع والفرد. وطرح كل منهما تفسيره الخاص لحركة التاريخ وعلاقات الإنتاج بل وللقيم الإنسانية ذاتها مثل الديموقراطية والمساواة والحرية. ثم تغير كل شيء في العقود الأخيرة الماضية. أخفقت التجربة الاشتراكية مخلّفة وراءها أطلالاً سياسية، ومجتمعات محبطة، وتساؤلات حائرة حول ما إذا كان الخلل هو في النظرية ذاتها أم في التطبيق. وتواصلت في سرعة قياسية سلسلة المتغيرات. دول كبرى تتفكك. قوميات تذبل وتنكفئ على ذاتها. أقليات وثقافات تستعيد ذاكرة هويتها القديمة مدفوعة بقوة نظام عالمي جديد سرعان ما اقتنص اللحظة المناسبة وأخذ يطبق نظام الفك وإعادة التركيب تحت مسمى الفوضى الخلاّقة. ونجحت السياسة الجديدة بالفعل في العراق والسودان. ولعلّها تختبئ الآن في جبال العرب ووديانهم، عند شواطئهم وعلى امتداد صحاريهم لتقتنص في اللحظة المواتية فريسة شاردة هنا أو هناك. هذا الواقع الجديد آلمنا وأغضبنا وما زال يثير خوفنا. لكن فضيلته الوحيدة أنه واجهنا بالسؤال الذي طالما فررنا منه وهو سؤال العروبة التي لم تحسن التعامل مع بعض الخصوصيات العرقية والدينية واللغوية في أرجائها ولا حاولت احتضانها وتفهم مطالبها. * * * غداً الواقع اذاً أشد تعقيداً مما كان بالأمس. لم تعد الأحزاب أو الجماعات أو التيارات التقليدية قادرة على استيعاب الظواهر والحقائق الجديدة التي سرعان ما تشكلت في أقل من عقدين. من هنا كانت حاجة الكثيرين للخروج من هذه الدوائر والتصنيفات بحثاً عن أفق جديد يكون الانتماء فيه لمجموعة من القيم والمبادئ بديلاً عن انتماءات تنظيمية لجماعة أو حزب أو تيار. أفق جديد يستوعب فيه الانتماء الفكري اختيارنا السياسي وليس العكس. كثيرون ضجروا بأحزاب لم تعد تلهم الناس وجماعات لا تقبل بأقل من ولاءات تشبه الصكوك على بياض! هنا يطل التساؤل: أليس ممكناً أن يوجد هذا الحزب أو ذاك التيار الذي يعبر وبصدق عن انتماءنا الأخلاقي لمجموعة من القيم والمبادئ؟ ربما لا وربما نعم. لكن الأمر يتوقف على مدى نجاح حزب ما في السماح بوجود أجنحة واجتهادات تعبر عن رؤاها الخاصة تحت المظلة الواسعة للحزب أو التيار. بهذا يمكن التوفيق بين القاسم الذي يربطنا بحزب أو بتيار وبين حقنا الإنساني الأصيل والمتجدد في التفكير والاجتهاد. لكن هذه حالة لم يألفها كثيراً العقل السياسي العربي. فهو عقل أحادي لا يقبل بأقل من التطابق، فإن اجتهدت طاردتك الشكوك والتهم أينما كنت وحيثما ارتحلت! * * * الفهم الإسلامي للإخاء الإنساني، والعروبة، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية، والعقل النقدي، وحقوق الإنسان أمثلة لقيم ومبادئ يصعب أن يتبناها معاً حزب أو جماعة أو تيار. فالقيمة الأولى تجعل منك يمينياً وربما أصولياً مكانك جماعة أو تيار ديني. والقيمة الثانية تنعتك بالفاشية والعنصرية فيكون لك أن تلوذ بحزب قومي. القيمة الثالثة تجعلك أقرب الى حزب اشتراكي أو عمالي. أما القيمة الرابعة فتضعك في أي حزب ليبرالي. والقيمة الخامسة تجعل منك علمانياً بالمفهوم العربي الشائع للعلمانية. أما القيمة السادسة والأخيرة فقيمة مشتركة تسعى كل القيم الأخرى إلى الانتساب اليها لكنها تفسرها على طريقتها. لكن إذا كان لكل قيمة من هذه القيم صدقيتها وجماعات وأحزاب تؤمن بها فلماذا يصادر حق البعض حين يحاول أن يجمع بينها؟ هل ثمة تناقض داخلي بين هذه القيم بعضها البعض أم أن العقل الإنساني ما زال يحن إلى ذاكرته البدائية في نفي الآخر وإقصائه؟ أم ترى أن هذه القيم، كل على حدة، ليست أكثر من حيثيات تتستر وراءها مصالح سياسية واقتصادية لأحزاب وتيارات شتى؟ لماذا يبدو الانتماء للعروبة قيمة فاشية وعنصرية من جانب البعض بينما يثير الحديث عن الحرية وحقوق الإنسان شكوك وريب البعض الآخر؟ ولماذا يصبح الانتماء الإسلامي مرادفاً للفكر الغيبي لدى البعض بينما يبدو العقل النقدي مبرراً لتكفير البعض الآخر؟ كيف السبيل إلى أفق جديد؟ * اكاديمي مصري، الامين العام لمؤسسة الفكر العربي نشر في العدد: 16939 ت.م: 20-08-2009 ص: 27 ط: الرياض