يعاني سكان الكرة الأرضية، خصوصاً الفقراء منهم، الذين يمثلون السواد الأعظم، الأمرّين بسبب تقلبات أسعار العملات الرئيسة. فأسعار المواد الاستهلاكية وغيرها من المواد بلغت حداً لم يستطع معه حتى المستثمرون وكبار التجار ورجال الأعمال امتصاص آثارها، كما أن تقلب أسعار العملات خلق نوعاً من عدم الاطمئنان لتوقيع عقود استيراد بضائع او تصديرها على المدى القصير او المتوسط او الطويل أمام تأرجح الأسعار المستمر الذي لا يعرف له قرار، وأصابت الجميعَ حيرة كبيرة وسكنهم هاجس سؤال كبير: كيف يمكن لهم المحافظة على رؤوس أموالهم وتسيير تجارتهم وتمويل استثماراتهم؟ ولأن حال الاقتصاد العالمي تجعل من الصعب الحصول على إجابة شافية لهذا السؤال اخذوا ينقلون أموالهم من عملة الى أخرى يجْنُون ربحاً مرة ويخسرون مرة أخرى، ولم يقتصر هذا التأثير على التجار والمستثمرين ورجال الأعمال، وإنما تعداهم إلى المستهلكين. وهذا هو الأمر المهم الذي يسيطر الآن على الأوساط المالية في خضمّ أزمة الكساد العالمي الذي أصاب اقتصادات العالم في مقتل منذ انطلاق شرارته من ارض بلاد العم سام لتجتاح نيرانها قارات العالم، وبالطبع نال وطننا العربي نصيبه من آثار هذه الكارثة التي لا تزال تزحف والتي أدت الى تقلب أسعار العملات العالمية. ويأتي الدولار الأميركي في مقدمة العملات الرئيسة فهو عملة الاحتياطي العالمي، فالبنوك المركزية في معظم دول العالم تحتفظ باحتياطات كبيرة من الدولارات لتلبية احتياجاتها من السلع والخدمات المستوردة، وبذا يمثل الدولار ثلثي احتياطات النقد الأجنبي على مستوى العالم وحوالي 80 في المئة من مبادلات سعر الصرف الأجنبي، وله أهميته البالغة في التأثير في التجارة الدولية، فأكثر من 50 في المئة من صادرات العالم بما فيها النفط والغاز يتم دفع قيمتها بالدولار ويبلغ حجم التداولات بالدولار في قارات العالم حوالي 3 تريليونات دولار. ولو حاولنا استعراض قائمة المتأثرين بسعر الدولار لوجدنا ان الدول العربية المصدرة للنفط تأتي في صلب تلك القائمة، إذ إن نفط تلك الدول يسعّر بالدولار، كما ان عملاتها ترتبط به، إذا استثنينا الكويت التي خرجت أخيراً من عباءة الدولار، وهذه الدول العربية تآكلت مداخيلها بشكل كبير بسبب ارتباط عملاتها بالدولار المريض. من الدول العربية المرتبطة عملاتها بالدولار ويسعر نفطها به دول مجلس التعاون الخليجي - ماعدا الكويت - وهذه الدول نتيجة ارتباط عملاتها بالعملة الأميركية تثبت أسعار الفائدة على عملاتها لتصبح مساوية الى حد كبير لسعر الفائدة على الدولار. ومن هذه العملات الريال السعودي الذي هو عملة اكبر دولة تملك اكبر احتياطي نفطي على نطاق العالم 264 بليون برميل، كما أنها اكبر مصدر للنفط عالمياً على نطاق العالم حيث تبلغ صادراتها منه أكثر من 8 ملايين برميل يومياً وهي - أي السعودية - صاحبة اكبر اقتصاد عربي، هذه الدولة ظل سعر عملتها الريال ثابتاً منذ عام 1986 وحتى اليوم أمام الدولار 3.75، هذا التثبيت للريال ل22 عاماً رغم التغيرات الاقتصادية والنقدية التي حدثت وتحدث على المستوى العالمي، خصوصاً في الوقت الراهن والعالم يعيش أزمة اقتصادية لم يعهدها منذ 80 عاماً تجعل مطلب إعادة النظر في السياسة النقدية في السعودية ودول المجلس ضرورة وليست ترفاً للتصدي للظروف الحالية على مستوى الاقتصاد المحلي والدولي. إن الوقت قد حان لكي تفعل الدول العربية عامة ودول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً، شيئاً لتعديل سياساتها النقدية بشكل يخرجها من عباءة الدولار، فربط عملات الدول العربية بالدولار المتهاوي يجعل العملات الوطنية تفقد معناها الى حد كبير، حتى ان تخفيض الفائدة على الدولار في عقر داره أميركا يجعل دولنا العربية تهرول مسرعة ضمن سياسات نقدية ثبت فشلها لتخفيض أسعار الفائدة على عملاتها بالنسبة نفسها التي خفض بها البنك المركزي الأميركي الفائدة على الدولار، والسياسة النقدية الحكيمة تستدعي العمل بحصافة وشفافية لمواجهة كل التغيرات الاقتصادية طبقاً لما تمليه الظروف المالية المحلية والدولية والتي قد تستدعي أحياناً رفع سعر الفائدة للحد من التضخم وزيادة ضخ رؤوس أموال للاستثمار وتشجيع الادخار. وإذا كانت أزمة الكساد العالمي لا تزال في بداياتها الا ان زلزالها قد هز العالم وجعل الدول والشعوب بين مندهش ومذهول وخائف ومترقب، كما انه بات من الواضح ان هذه الأزمة ستستمر ردحاً من الزمن، وان العالم لن يتعافى من آثارها قريباً، ولذا فإن الدول العربية ممثلة في بنوكها المركزية ووزارات المال والاقتصاد بأدوارها المتواضعة، عليها ان تنفض الغبار الكثيف الذي غطى قدراتها لتدفع البنوك والمؤسسات المالية للعب دور مركزي واستعمال كل الأدوات الممكنة وتطبيق السياسات النقدية الحصيفة، والأخذ بمبدأ الشفافية الصارمة على المصارف العربية لتطبق القواعد والأسس البنكية والمالية المتعارف عليها دولياً، والعمل على حصار الفساد الذي تتبدى صوره حتى في القروض التي يحصل عليها الأثرياء وتحجب عن شركات ومؤسسات صغيرة تمثل عمود الاقتصادات. وبنتيجة الفساد الذي استشرى في معظم البنوك العربية استولت فئة قليلة على عشرات البلايين وأخذت تماطل في السداد وهي آمنة من الملاحقة والعقاب بل ان بعضها فر خارج الدول بأموال طائلة وقيدت تلك الأموال كديون معدومة فلحقت الخسائر بالمساهمين في تلك البنوك والمستثمرين في أسهمها في البورصات العربية التي هلك تحت وطأتها مستثمرون صغار كُثر ذهبت أموالهم أدراج الرياح. إن النظام المصرفي في عالمنا العربي يجب ان يستفيد من العبر والدروس المستقاة من الأزمة الاقتصادية في سياساته النقدية والعمل على وقف البنوك التي ركبت صهوة جواد الجشع والمجاملات والفساد عند حدها لإصلاح حالها وحال السياسات النقدية حتى لا يصبح مستقبل معظم البنوك بل والاقتصاديات العربية على شفا هاوية. وإذا كانت عملات دول مجلس التعاون - ما عدا الكويت - ترتبط بالدولار، فإن هذا يعرضها للضغوط المستمرة، وإحدى النتائج الحتمية لذلك ان إيرادات هذه الدول من بيع البترول ستتراجع من دون شك بسبب تدهور سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسة كاليورو والين والجنيه الاسترليني. ناهيك أن عملات الدول العربية ستنخفض قيمتها بشكل موازٍ لانخفاض الدولار الذي ترتبط به، وبالتالي فإن السلع المستوردة من دول أخرى غير الولاياتالمتحدة كالصين واليابان والهند وأوروبا سترتفع أسعارها. هذا إلى جانب ان ربط عملات الدول العربية بالدولار الضعيف يؤثر سلباً في اقتصادات تلك الدول، بمعنى ان معدلات التضخم وأسعار الفائدة في الدول العربية ستكون مرتبطة بمعدلاتها في أميركا. إذاً، من المهم البحث عن مخرج يبعد عملات هذه الدول عن مظلة الدولار الذي اعترته الثقوب فلم يستطع حماية العملات المرتبطة به من الشمس الحارقة، والمخرج هو اعتماد سلة عملات يكون الدولار من ضمنها بعد ان أصبحت سياسة الدولار الضعيف سياسة مقصودة للبنك المركزي الأميركي لدفع عجلة القدرة التنافسية للصادرات الأميركية وتحجيم عجز الميزان التجاري الضخم، وتوازن النمو في ذلك البلد على حساب الدول المرتبطة عملاتها بالدولار. فهل لدولنا التي يسعّر نفطها بهذه العملة الرئيسية ان تنتفض وتخطو نحو سياسة نقدية جديدة تخدم مصالح عملاتها ومصالحها حاضراً ومستقبلاً؟ * رئيس مركز الخيج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية. [email protected] نشر في العدد: 16843 ت.م: 16-05-2009 ص: 13 ط: الرياض