فليحضرُ التاريخ فوراً! وليلغ موعده مع الحرب التي ستجيء أو مع أي سلمٍ مُفترض، ومع القضايا العالقات بحبره وحرابه، وإذا تذرعَ بانشغالٍ أو مرض، وإذا اعترض، سأجره بيدي الى غُرف المعيشة والضيافة بيننا، ليرى لأول مرة بلداً يمارس يومه العادي بين يديه. سوف أهيئ الأقلام والأوراق: أكتب ما ترى! سترى انتظاري فاكتب الآن انتظاري، لا لمعجزة، فإن المعجزات فضيحةٌ للعقل، لا لتفاهة الجنيِّ في أسطورةٍ تُروى، فهذا الكامل المنفوخ أعجزُ من هشاشتنا ولا للنصر في غزو وراء البحر، إني لا بوارجَ لي، ولكني انتظرت هنا طويلاً بين جدراني البسيطة فاكتب الآن انتظاري قل هنا رجلٌ يقيم في الانتظار ولست أدري ما بهِ. سترى هنا أماً تمشط شعرَ طفلتها لترسلها الى جرس الصباح المدرسي ترِنُّ حُسناً في حديقة عمرها وترن، لا أحداثَ لا آثار مجزرةٍ، فقط أم مع ابنتها، فدوِّن مشطها وجدائل البنتِ الصغيرة في دفاترك التي انشغلت بأخبار الممالك عن وجوه الناس. لاحظ خوفنا إن رن هاتفنا ولا تتكهن الأسباب واكتب أننا نخشى رنين الهاتف الليلي، هل فكرت يوماً أن هذا لم يُدون في كتابك؟ أم تراه من اختصاص الشعر والشعراء لا يا سيدي فاكتبه! وليكن اختصاصك منذ هذا اليوم واكتب عن تلهفنا لنلحق نشرة الأخبار، هل خبرٌ عن الأفران؟ هل خبر عن الأسعار؟ هل خبرٌ عن الأسرى؟ ستلمح بنتنا الكبرى تسابقنا لفتح الباب ثم تعودُ غاضبةً وتصبِر ساعةً أخرى، أيخلفُ وعده؟ أم أنه ما زال ينتظر الحواجز علها تُفتح؟ سترى قريباً جاء مضطرباً يعزّينا، فلم يسمع سوى بالأمس عن موت ابن عمته أمين المعهد الوطني للمسرح ولا تعجب، لنا مسرح، ولا وطنٌ لنا! وافرح كما نفرح، إذا نشروا قصيدة ابننا في الملحق الأدبي بعد غدٍ، ودوِّن لمعة العينين حين ترى حفيداً بيننا يلهو بنا ونظننا نلهو به وعلى الجدار ستلحظ المسمار والصدأ المكوم فوق مفتاحٍ كبير الحجم والسنوات واكتُبها رأيت هناك مفتاحاً يحن لبابه. سترى بعينك كيف يكذبُ جارنا الثاني علينا حين يُنكرُ أنه أغوى صبية جاره بوعوده وأحب جارتها فأربك كل أهل الحيِّ، قل إني رأيت مراهقاً سمجاً، ولا تشرح وتابع كيف ترسم بنتنا دبابةً وأمامها ولدٌ يسد طريقها بقميصه وبنظرة العينين لا تعجب ولا تسرح بعيداً في خيالك، إنها قتلتهُ طبعاً، هل سمعت طوال هذا العمر عن دبابةٍ تمزح؟ فاكتب عن البنت التي رسمت لنا دبابة وأمامها ولدٌ، سأترك رسمها يغفو ويصحو في كتابكَ مثل ذاكرةٍ، فهل تسمح؟ انظر الى ما يشغلُ العماتِ عنك وراقب الخالات ينشرن النميمة كالزرابي اللطيفة حول قهوتهن، أو يذكرن ماضيهن قرب الشاطئ المسروق، أو يخبزنَ أقراصاً مطيبة أتت من أرض نجدٍ، من بلاد الشام، أندلس الفواكه، من جبال المغرب الأقصى، وأرض الرافدين ومن قصور بني أمية، أو بني العباس أو من فن فلاحين أعطاهم نباتُ الأرض حكمته ووصفته وأصغِ الى خطى"جيش الدفاع"على سلالم دارنا يا أيها التاريخ هذا أولاً! يا أيها التاريخ هذا أولاً! فاكتب كما أُملي عليك: إن الغزاة لصوصُ كل روايةٍ، بدأوا الحكاية كلها من"ثانياً"! بدأو الحكاية كلها من ردِّ فعلي وامتحان صوابه ويعرفون صفاتنا بصفاتهم لسنا مجرد"خصمهم" بل نحن"نحنُ". لنا من التعاريف المُضاعةِ في كتابكَ ما يخص وجوهنا ولنا صفاتٌ قبل أن يصلوا وبعد رحيلهم. كنا بأيدينا نخط على الصخور كتابنا بالنسخ والكوفي والثلثِ المورقِ قبل أن يصل المغولي الجديد لقتل أحرفنا على أعتابنا لم نزرع الزيتون في هذي السفوح وانما كتبته موسيقى من الأجداد في روح الزمان، فصار أغنية الجرار، وصار صاحبنا الوفي، وجارنا، وجميعنا يوم انتساب الناس من أنسابه. واللوز ألفناهُ فُصحى من جنائنَ مثل أحرُفنا التي رسمت براعمهُ وطرزتِ الزهورَ البيض في أهدابهِ. والكرم ميلُ جدائل الفتيات في رقصاتهن كأنهن نضجن في أعنابه وأتى المغول لحرقهن وحرقهم ولحرقنا يا أيها التاريخ: هذا أولاً! يا أيها التاريخ: هذا أولاً! هل كنت ساعتها مريضاً؟ أم مجازاً أم أضعت الدفتر الكوني في كأسين من خمرٍ شماليٍ فخذ مفتاحنا واكتب به واكتب على البيت الفلسطيني بالمفتاح:"هذا أولاً". قبل الحجارة في يد الأولاد قبل تمزق الأعياد، قبل البحث عن فشك الحداد وقبل أخطاء القتال وقبل تبديل البلاد بخيمةٍ إبدأ حكايتك الجديدة من هنا، من"أولاً" واكتب كمحترفٍ رأى بشراً حقيقيين لا تُشفق علينا، لا تقل كانوا ضحايا لا تسل ماذا سيحدث تالياً النصر يأتي تالياً يا سيدي، والنصر ما جرح الجريئة والجريء. لسنا ضحايا، بل نُضحي كي يجيء؟