"أرض لا أحد" الفيلم الروائي الأول لدنيش تانوفيتش قصد به ان يكون صرخته المعبرة عن وجعه بعد سنوات من نهاية الحرب الأهلية التي خاضها البوسنيون ضد الصرب تارة وضد الكروات تارة أخرى، وضد الطرفين معاً في بعض الأحيان. ربما دارت أحداث الفيلم خلال سنوات الحرب، لكنه يتحدث عن الحاضر، عن ال"ما بعد" من دون ان يترك زمانه ومن دون ان يغادر خندقه. فقط بالتوصل الى مشهد نهائي يلخص الحالات كلها ويعطي المشاهد نفساً مما لا يزال قائماً في البوسنة. يقول المخرج تانوفيتش ل"الحياة" التي التقته في مهرجان تورنتو "لدي غضب كبير، أعترف، غضب ضد أميركا وضد الأممالمتحدة وضد الذين قاتلوا ضدنا وضد الحرب بأسرها. البوسنة كانت اقليماً جميلاً، سراييفو كانت ربيع المدن اليوغوسلافية. كل ذلك أطيح واستمرت الاطاحة زمناً طويلاً، حتى بعد تدخل أميركا والناتو والأممالمتحدة. كنا نموت وهم يتفرجون. كنا نحاول رفع أعناقنا لنعيش وهم يراقبوننا كما لو كانت غاية وجودهم هي المراقبة وتسجيل الملاحظات". المشهد الأخير هو لكاميرا ترتفع من فوق مقاتل بوسني مستلق على ظهره. انه أقل ممثلي الفيلم حركة، إذ في مطلع الفيلم أصيب برصاصة من مقاتل صربي في الخندق ذاته. ذلك الجندي لم يكتف بإصابة البوسني بل وضع تحته لغماً، إذا ما حاول احد انقاذ هذا الجندي أو مجرد زحزحته عن مكانه انفجر بالجميع... وهذا هو المطلوب. الجندي الصربي يقتله مقاتل بوسني ويأسر جندياً صربياً آخر. بين الثلاثة يدور نصف الفيلم. الصراع بين مقاتلين، بوسني وصربي، ينقلب في اتجاهات عدة يحاولان خلالها السيطرة على الحفرة التي تقع بين الجبهتين "أرض لا أحد" ويتبادلان الانتصار والهزيمة والتعادل في بعض الأحيان. لكن الجندي الثالث المطروح أرضاً، والذي حين أفاق اكتشف ما يرقد عليه، ليس مجرد اضافة صغيرة، انه محور الفيلم بأسره ومفتاح المشهد الأخير حينما ترتفع الكاميرا عنه لتكشف المكان بأسره بينما لا يزال في الصورة. انه البوسنة الجريحة اليوم. تلك التي أصيبت في الحرب ولا تزال تنزف بعد كل تلك السنوات. نقد الأممالمتحدة النصف الثاني من الفيلم فيه لاعبان أكثر. يبدأ بوصول اشعار لقوات الأممالمتحدة بأن هناك مشكلة قائمة تهدد باشتعال الجبهة: ثلاثة مقاتلين موجودين في خندق واحد لا يستطيعون مغادرته لأنه يقع بين الخطين الأماميين للقوات المتحاربة. إذا ما توجه الصربي الى خطه أطلقت عليه النار خوفاً من ان يكون هناك خدعة. وإذا ما توجه البوسني الى خطه جوبه بالمصير نفسه للسبب نفسه. الصربي لا يستطيع الخروج الا بمعونة الأممالمتحدة، وهذه تتحرك باندفاع من ابط شاب، لكنها تصطدم بعائق القيادة التي تكره ان تجد نفسها في موضع حل الأزمات طوال الوقت وتعتبر الحال ثانوية. على ذلك ينتقل قائد المنطقة العسكرية الى الخندق ويرى بأم عينه. خبير المتفجرات ألماني يكشف عن الوضع ويتأكد من استحالة نقل الجريح. الصحافة موجودة على مقربة لكنها لا تدري ما يحدث. القائد يقرر اشاعة ان الجندي الجريح سينقل الى الطائرة المروحية ويخرج بمسرحية ملفقة بعد ابعاد الصحافيين عن المكان أما الجنديان، البوسني والصربي، فيتبادلان اطلاق النار ويقتل كل منهما الآخر. تنتهي المهمة ويوجه المخرج الكاميرا في ذلك المشهد الأخير ذي الدلالات. الفيلم بأسره ينتقل من الدراما الى الكوميديا السوداء. كذلك يصح اعتباره كله كوميديا سوداء تنضح بالسخرية. انه من مخرج يرفض قبول ما جرى ويطلب منا رفضه أيضاً وعدم تصديق ان الأمور استتبت وان الحلول مطبقة. هذه الكوميديا مصوّرة بأقل قدر من اضاعة الوقت. انها لا تستهلك متطلبات ذاتية ولا تحاول اقحام المشاهد في سلسلة من المرح لتخفيف عبء المادة وقوتها، كذلك لا تعرف أي نوع من المساواة والمعادلات طوال الوقت. صحيح انها ليست هجومية طوال الوقت، لكنها تبقى انتقادية وذات رائحة محروقة تتألف من الأرض ومن السماء فوقها وما بينهما من آلام الإنسان. لتحقيق هذا كله كان لا بد للكاميرا تحت ادارة وولتر فندق إند ان تكون بدورها مقتصدة وبعيدة من الاستعراض لحساب أي ذات. سرد قوي في البداية الأولى مجموعة من الجنود البوسنييين يجوبون في الضباب الشديد محاولين العودة الى مراكزهم في منطقة حرجية. لكن الضباب يحول دون وصولهم الى موقعهم. أكبرهم سناً يؤكد لهم انهم في الطريق الصحيح. ما ان ينطق بذلك حتى يفتح الصرب أسلحتهم ويقتلون معظمهم. من هذه الموقعة وما بعدها ترتفع وتيرة السخرية تجاه ما يمكن القبول به وما لا يمكن القبول به. يحاول تانوفيتش خلال العرض اظهار توازن القوى على الأرض واستيحاء المشكلات التي تخرج عن نطاق الحياة في ذلك الخندق متعرضاً قليلاً للتاريخ وقليلاً للأحلام المجهضة وقليلاً للواقع الذي - كالبدن الجريح - لا يمكن ازاحته. هذه المشتملات لا تعرقل سرداً قوياً جداً للمخرج. في هذا الفيلم الأول لا يختار فقط معالجة مباشرة لكن خالية من الخطابة على رغم امكان قبول قليل منها بل يمسك ببداية قصة تثير الاهتمام بكل نواحيها طوال الوقت وبمنتصفها ونهايتها. كما يدير الممثلين بطريقة لافتة للنظر ولو انه من المبكر معرفة إذا ما كانت ادارته تلك تدين لقدرته الخاصة وحده،. أم ان كل من معه كان على المستوى ذاته من الطرح. اختيار بيروت اختيار مهرجان بيروت، لافتتاح دورته الجديدة بهذا الفيلم أمر ذو مغزى. وكثيراً في الفيلم ما نجد أصداء للحرب الأهلية اللبنانية التي تعيش معنا الى اليوم. انه جو الفيلم العابق بالخسارة الانسانية وخطابه الانتقادي للأطراف كافة وسعيه لطرح السؤال حول واقع اليوم، ولماذا لم ينهض أو يتبدل كثيراً الى الأمام كما كان الوعد عندما وضع المتحاربون بنادقهم وجروا لبعضهم البعض يتبادلون القبل. المقابلة تمّت قبل كارثة "مركز التجارة الدولي" بثلاثة أيام. جلس مع المنتج سيدومير كولار طويلاً يتباحثان في ما هو غير مسموع من الكلام. حين جاء موعد المقابلة جلس المنتج مكتفياً بالقليل من التعليق، لكنه كان دائم الابتسام حتى بينما كان تانوفيتش دائم العبوس. "أرض لا أحد" سيفتتح مهرجان بيروت. ما رأيك؟ - أشعر بالبهجة لذلك وأتطلع من الآن لمعرفة رأي الجمهور فيه. انه ليس من السهل تقديم فيلم عن حرب أهلية لشعب مر بحرب مثلها، لكني صنعت الفيلم بلغة أعلم انها عالمية وطرحت فيها أوجاعاً كثيرة أعيشها كبوسني وأسئلة تعنينا جميعاً كبشر. سأزور بيروت للمرة الأولى وسأكون سعيداً بذلك. حين عرضت الفيلم للمرة الأولى في مهرجان "كان" سمعنا صحافيين غربيين يقولون ان الفيلم يحمل نقداً مفرطاً تجاه "الأممالمتحدة" التي رعت عملية السلام... - لقد كنت لطيفاً مع الأممالمتحدة في فيلمي. ان رأيي في الأممالمتحدة هو أقسى بكثير مما عبرت عنه في الفيلم. ماذا تقول في أناس كان مفترضاً بهم ان يحموا البوسنيين في المنطقة الصربية ولم يفعلوا؟ بدلاً من ذلك أخذوا يلعبون كرة القدم مع الصرب الذين كانوا ذبحوا في يوم واحد 9000 بوسني. هل تستطيع ان تجد تبريراً لذلك؟ 9000 انسان قتلوا في يوم واحد في منطقة تسيطر عليها الأممالمتحدة. ورجالها يلعبون كرة القدم. ثم يقولون لنا: أنتم جميعاً تعنون لنا الشيء نفسه. ماذا يعني ذلك "الشيء نفسه"؟ - تماماً... ما يعني ذلك؟ اننا لسنا واحداً. قلت انك تلوم الولايات المحدة... لم أفهم منطلقك لذلك؟ - هناك 3000 لغم مزروع في البوسنة، والولاياتالمتحدة لا تزال تنتج هذه الألغام وتبعث بها الى كل أنحاء العالم. عليكم ان تكتبوا في الصحافة ضد هذه الوسائل من القتل الخفي. الألغام الجديدة مصنوعة من البلاستيك ما يعني ان آلات البحث عنها لا تستطيع كشفها وبالتالي تبقى هناك بانتظار ان تنفجر ولو بعد سنين طويلة من انتهاء الحرب. هل تعلم ان كلفة انتاج لغم واحد لا تزيد على دولار واحد؟ لكن من أجل ازالتها فإن اللغم الواحد يكلف 100 دولار؟ اذا ما كانت الحكومة البوسنية بالكاد تستطيع اطعام شعبها كيف ستستطيع ازالة هذه الألغام؟ أنقل اليك ما سمعته من نقد وأرجوك لا تغضب هنا ولا تضحك أيضاً: أحد النقاد كتب متسائلاً اذا ما كان من الممكن استخراج اللغم من تحت الجريح بوضع ثقل تحته... - يضحك طويلاً... طبعاً ممكن في الأفلام الهوليوودية. في الحياة الحقيقية لا. في فيلمي لا. لو رأيت لغماً في حياتك من النوع الرفّاص لأدركت انه ينتظر أي حركة صغيرة لينفجر. انه ليس لعبة وفي الفيلم يكتشف خبير المتفجرات ذلك سريعاً ويدرك انه لا يستطيع فعل شيء حياله فيغادر. هذا النوع من الألغام موجود ويطلقون عليه اسم Bouncing Betty. هل تؤمن بأن الفيلم يغير أوضاعاً؟ يؤثر في الناس؟ - ما سيغيّر في الناس هو محاكمة مجرمي الحرب. هذا هو التغيير الذي نطلبه فلا أحد يستطيع بناء دولة معافاة بوجود فاشيين خارج السجون. انهم فاشيون يسيرون ويعيشون حياتهم من دون تغيير أو عقوبات على ما فعلوه خلال الحرب. الفاشيون كانوا يمشون أمام القوات الأميركية والقوات الأميركية كانت تعلم من هم لكنها لم تلق القبض عليهم.