حين دخل الجيش البريطانيّ الى برلين، بعد الحرب العالميّة الثانية، كان من أوّل الأعمال التي باشرها في القطاع المخصّص له تدريب الألمان على العمل النقابيّ. فالنقابات الألمانيّة العريقة كان قد دمّرها هتلر على امتداد حكمه التوتاليتاريّ ما بين 1933 و1945. وكان ما حدا بالبريطانيّين أن يفعلوا ما فعلوه بضعة قناعات كانت لا تزال سائدة، بل مسلّم بها: من ذاك ان الديموقراطيّة لا تكتمل من دون شراكة سائر قطاعات المجتمع في صنع قراراته، وان توزيع الثروة لا ينبغي تركه لأخلاق شخص بعينه، أو طبقة بعينها، لأن"الطبيعة الإنسانيّة"، إذا ما تُركت من دون ضوابط ملزمة، ليست مما يؤتمن له، وأخيراً، أنه لا بدّ من توطيد المصالحة بين التقليدين العظيمين للثقافة الغربيّة، الليبراليّ منهما والاشتراكيّ الديموقراطيّ. تلك أيام ولّت، وهي بدأت تولّي مع وصول مارغريت تاتشر ورونالد ريغان الى ذروة السلطة في بلديهما، أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، حيث خاضت الأولى معركة"كسر عظم"مع النقابات مسلّحة بالمشاعر الشعبويّة التي خلّفها"شتاء التذمّر"في 1979. ومعروفة حكاية ريغان، تلميذ المدرسة النقديّة لهايك وفريدمان، مع الدولة والخدمات والتنظيم. هكذا انخفضت عضويّة النقابات في أميركا من أكثر من 35 في المئة أواسط الخمسينات الى 8 في المئة حاليّاً. الأمور، وربّ ضارّة نافعة، بدأت تختلف تحت وطأة الأزمة الماليّة - الاقتصاديّة الطاحنة والتسريحات الواسعة التي تسبّبت، وتتسبّب، بها."فإذا كانت، على ما كتبت مجلة"ايكونوميست"12 آذار/ مارس، مراحل البطالة المرتفعة سيّئة للعمّال غير المرغوب فيهم، فيبدو أنها جيّدة لحقوق العمّال". وربّما جاز القول إن باراك أوباما رمز التحوّل من غير أن يكون صانعه بطبيعة الحال: فالرئيس الأميركيّ الجديد يستقبل القائد النقابيّ جون سويني مرّة في الأسبوع، هو الذي لم ير جورج بوش إلا مرّة واحدة خلال ثماني سنوات. وأهمّ من ذلك دعمه تشريع"مرسوم علاقات العمل"في المجلسين، هو الذي خاض البيزنس، ويخوض، إحدى أشرس معارك اللوبيّات الأميركيّة ضدّه كونه يسهّل عضويّة العمّال في نقابة. والوجهة تتعدّى الولايات المتّحدة، كما تتعدّى قطاعات العمل إلى الأكاديميا: فمن جهة، يعلن جون مونكس، القياديّ النقابيّ الأوروبيّ، ان"النقابيّة في أوروبا والولايات المتّحدة تصعدان"، ومن جهة أخرى، يصدر أربعون اقتصاديّاً عالميّاً بينهم ثلاثة نالوا جائزة نوبل: كينيث أرو وروبرت سولو وجوزيف ستغليتز بياناً نشرته"واشنطن بوست"، يدعم"مرسوم علاقات العمل". وإذ يضع القادة النقابيّون خطّة شجاعة من خمس نقاط يتقدّمون بها إلى قادة مجموعة العشرين، تقول النقابات الفرنسيّة إنها أنزلت ثلاثة ملايين محتجّ الى الشوارع رغم ان البوليس قدّر العدد ب1.2 مليون. لا شك أن نقابيّة اليوم ستختلف عن نقابيّة الأمس. فهي كي تزدهر لا بد أن تطلّق رجعيّتها حيال الجديد، وتتهيّأ لإجابات عن أسئلة لم تكن مطروحة: كيف التعامل مع التنوّع الهائل في المهن الحديثة التي تجعل التفاوض الجماعيّ أصعب من ذي قبل؟ وكيف تتكيّف الضمانات المطلوبة مع أعمال لم تعد تغطّي إلاّ شطراً قد يكون عابراً من الحياة المعاشة؟ وكيف يُكتسب، لا سيّما بين عمّال أميركا، أفق ثقافيّ وذهنيّ أشدّ ترحيباً بالعولمة وأقلّ عداء للحمائيّة وللعمالة المهاجرة؟ وأخيراً، كيف يُنفق الجهد الحاليّ، لا على الرمزيّات الشعبويّة كمقاتلة"ماكدونالدز"وتحطيمه، بل على فرض مكاسب تحملها المؤسّسات، وتكون قابلة للمأسسة بحيث يُستفاد منها في المرحلة المقبلة؟ الأسئلة لا بدّ أن تستثير التفكير للوقوع على إجابات ملائمة. لكنّ المؤكّد أن ثمّة شيئاً يتغيّر يُستحسن الإصغاء إلى صوته الذي قد يغدو دويّاً. نشر في العدد: 16790 ت.م: 24-03-2009 ص: 15 ط: الرياض