عادة ما تظهر الكتب وهي تحمل على أغلفتها الأخيرة صورة المؤلف أو نبذة عن حياته. هذا لا يصدق في حالة الروائي الأميركي توماس بينشون. لا نبذة. لا صورة. لا أحد يعرف الشيء الكثير عنه. إنه كاتب مجهول. هو غائب عن المشهد كلياً تاركاً المجال لكتبه وحدها كي تفصح عن وجوده. له ميل سالينجر الى العزلة والانطواء. غير أن سالينجر شخص مستقل، له تاريخ ميلاد وموطن عيش وصور فوتوغرافية وسوى ذلك. توماس بينشون هو توماس بينشون. على رغم الانترنت والغوغل والفيسبوك ما زال الغموض يحيط به. له صور قليلة جداً أشهرها تلك التي التقطت له في بدايات حياته الادبية: عينان واضحتان وفم منفرج وأسنان بارزة. هو اكثر الكتاب المعاصرين غموضاً. انه يشكل ظاهرة فريدة في الكتابة الروائية المعاصرة. كاتب معروف ومقروء، ومع هذا لا احد يعرف عنه شيئاً. اين يقيم؟ كيف يعيش؟ هل هو متزوج؟ كم ولداً عنده؟ الخ. لا أحد يراه. لا يزوره احد ولا يزور احداً. لا يحضر حفلات توقيع الكتب ولا يظهر في التلفزيون. هل هو موجود حقاً؟ ماذا لو منح جائزة نوبل؟ هل يذهب لتسلمها؟ انه الرجل السري. الرجل الذي لا وجه له. ماذا لو كان توفي من دون أن يدري بذلك أحد؟ ربما يكون ذلك قد حدث فعلاً. عيشه الخفي يوفر له ذلك. إن للعزلة مكاسب لا يقدّرها سوى من اكتوى بنار الشهرة. لا يبقى سوى الانسلال الى رواياته والشخصيات التي يسرد حياتها للتعرف إليه عن قرب. رواياته تقول إنه شخص مثقف ومتبحر في المعارف. روائي موسوعي يحب المواضيع الغامضة والوقائع العلمية والحبكات البوليسية. رفض تلقي جائزة الاكاديمية الاميركية للفنون والآداب وقال ببساطة: لا أريدها. اقتربت منه صحافية وأرادت ان تصوره وتجري لقاء معه. حدث ذلك بعد ظهور روايته الاولى. لم يكن نال اي قسط من الشهرة بعد. هرب منها. انتقل الى الريف وسكن في قرية جبلية في مقاطعة غواناجوانتا بعيداً من طرق المواصلات. منذ ذلك الحين لم يره احد. توماس بينشون ولد في لونغ ايلاند عام1937 ودرس الرياضيات والفيزياء الالكترونية. ثم درس الأدب على يد فلاديمير نابوكوف في جامعة كورنيل. التحق بالبحرية سنتين قبل ان يعود ثانية الى الدراسة ويخوض الامتحانات في الجامعة. اصدر مجموعته القصصية الوحيدة بعنوان"المطر الصغير"عام 1959. بعد ذلك اشتغل في شركة بوينغ للطيران في سياتل. في مكسيكو سيتي كتب روايته الاولى"في"ثم اختار العزلة ولاذ بالصمت. لاحقه مراسل ال"سي أن أن"، غير انه استجاب لرغبته في البقاء منزوياً بعيداً من الاضواء. زعم كثر من الصحافيين والإعلاميين أنهم قابلوه، غير أن الشكوك بقيت تحيط بهذه المزاعم. بل ان بعضهم ألف كتباً عنه."من هو توماس بينشون ولماذا هرب مع زوجتي؟". هذا هو عنوان كتاب وضعه جول سيغل. أما انرو غوردن فقد كتب كراساً بعنوان:"تعاطي المخدرات مع توماس بينشون، ذكرى الستينات". نصوص بينشون غامضة مثله. تصعب قراءة تلك النصوص حتى أن اللجنة المشرفة على جائزة بوليتزر حجبت عنه الجائزة"لصعوبة قراءة النص". يصور الولاياتالمتحدة بصفتها جنة المختلّين نفسياً. في رواياته تتردد التيمات الخاصة بالمحيط الأميركي: المافيا، النزعة الرأسمالية، البحث عن الربح، التحليل النفسي، المخدرات، موسيقى الروك اند رول. أكثر شيء يجذبه هو حضور التاريخ في الرواية. وجد النقاد وجه شبه بينه وبين رولان بارت من جهة تحويل المقالات التحليلية الى نصوص ادبية. رواياته المتعددة المواضيع والحبكات تجول في أزمنة مختلفة وأمكنة متعددة. روايات يحار المرء في تعيين جنسها: أهي روايات بوليسية أم روايات خيال علمي أم روايات تحر واستكشاف أم روايات تاريخية. بالنسبة اليه، الرواية هي الشكل الادبي الأنسب لحمل التاريخ الى النص الكتابي. انه ذاك الشخص الذي يدلنا الى مكامن الغموض في الذات الانسانية. من غير الممكن، بل ربما من المستحيل تلخيص روايات بينشون. رواية"في"تدور في عالم فتاة تُدعى في. الرواية بحث مضن في المحيط المعقد الذي تعيش فيه الفتاة. هذا عالم غير مرئي، غير بشري، يحيط به الغموض والخوف من كل جهاته. يتداخل التاريخ والخيال العلمي فنجد نفسنا امام ألغاز محيرة. ثمة تفاصيل لا تنتهي عن أشياء وكائنات غير مألوفة. يلوح الأمر مثل لعبة القطع المبعثرة التي يتعين على القارئ ان يعيدها الى اماكنها الاصلية ولن يتحقق ذلك إلا بعد ان يبذل جهداً. في نهاية الأمر تنجلي الاشياء عن صراع لا نهائي بين قطبين، هما على الأرجح الخير والشر. غير ان الشر، الذي لا يسأم من بذل الجهد من دون كلل، هو الذي يوفر القوة المحركة للتاريخ. رواية"قوس قزح الجاذبية"هي أصعب روايات بينشون على الاطلاق. محاولة للتحري عن ورطة الكائن البشري الصغير والضعيف أمام سطوة القوى الفوقية، بالمعنيين الواقعي والميتافيزيقي، على طول الطريق من الولادة الى الموت. ثمة جندي أميركي في ألمانيا ما بعد الحرب يمضي في أثر سر صاروخ يدعى"في 2"يفترض أنه سيخترق حاجز الجاذبية في الكرة الأرضية ويمضي إلى الفضاء الخارجي. النص حافل بفانتازيات غريبة ومألوفة."صرخة لوت 49"تعالج البحث عما هو مفقود والسعي في ادراك ما يصعب ادراكه. هي نوع من حكاية تشويقية تحيط بحياة مغني الروك ان رول. هي في الوقت نفسه حكاية امرأة تظهر فجأة في محطة بريد. إنها تلاحق البريد. أي بريد؟ لمن؟ أم أن أحداً يلاحقها؟ كيف تنهض ومعها الصخب والضوضاء والموسيقى والغناء؟ ثمة مزيج مدمر من البارانويا والقلق الوجودي والسعي في البروز ولو على جثث الموتى. هناك قوة مميتة تدفع باتجاه الأضواء. انها قوة كاسحة لا يفلح شيء في الوقوف بوجهها. رواياته تمزج معاً المعارف العلمية والفلسفة والتاريخ والاديان والخرافات والتجسس والتحري وعالم الاطفال والموسيقى. بشر، تائهون، مغلوبون على أمرهم، يعانون الضعف والهشاشة، يجدون انفسهم في مواقف عبثية. بين الحين والآخر ترتفع ضحكة مريرة. فعلى رغم العطب الذي لا علاج له، هناك ما يزيل القناع عن الأشياء لتظهر عارية مضحكة. الواقع عبارة عن كوميديا هزلية ترتدي قناعاً ثقيلاً من التراجيديا المحزنة. هذه هي عبثية الموت والحياة التي تستمر في استدراجنا الى مسرحها العبثي من دون توقف. نجد صدى لأفكار الشاعر الروماني الشهير سيوران عند بينشون. يكتب:"الإنسان يصنع التاريخ غير أن التاريخ يعود ليصوغ الإنسان"... هذه الازدواجات نراها في روايته المعنونة"ماسون وديكسون"أيضاً. ازدواجات تؤلف ما يشبه الفخ الابدي الذي لا يمل الانسان من الوقوع فيه من الأزل إلى الأبد. تشارلز ماسون وجيريمياه ديكسون ضحيتان، هما أيضاً، للتاريخ. التاريخ قدر لا فكاك منه. مصيرهما لن يختلف عن مصير غيرهما من البشر على رغم كل سعيهما الى الاختلاف. لن يسعفهما الفلك ولا المغامرات ولا الأضواء. الموت والفناء نهاية كل شيء، فلماذا التبجح؟ ذلك هو الدرس الذي تعلمه بينشون باكراً فهرب من كل شيء ليعيش منزوياً بعيداً من كل شيء. روايات توماس بينشون هي صورة مكثفة لحياته. في الروايات يتغلغل الزمن بين السطور مثل قوة مستبدة لا فكاك من قبضتها. انه السيد الآمر الذي يرتب كل شيء في شكل قبلي، فلا يعود ممكناً الاحتيال عليه والتهرب من دفع مستحقاته. فكرة أن الإنسان ضعيف ومحكوم بالموت لا تعود ذات معنى من دون ارتباطها بالناظم الزمني. فهو وحده الذي يملأ الفراغ الكوني. في عالمه المعزول يعيش بينشون بانتظار المجهول الغامض.