ما كاد الاحتفال بتنصيب الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، بما يحمله من أبعاد رمزية وتاريخية، أن ينتهي، حتى عادت الهموم الواقعية إلى الواجهة، لا سيما منها الأزمة الاقتصادية التي أذهلت، ولا تزال، المجتمع الأميركي بأبعادها المستجدة يوماً بعد آخر. ولكن، على خلفية المهام الجسيمة الملقاة على عاتق الحكومة غير المكتملة الأقطاب بعد، لحظت المتابعات الإعلامية بروز تصدعات متوالية في الوعود الانتخابية التي قطعها الرئيس أوباما. فالسؤال المطروح ضمناً وجهاراً: هل هذه هفوات أولية لا مفر منها إلى حين استتباب إطار العمل الثابت، أم هل هي أول الغيث في رئاسة وحكومة لا تختلفان عن سابقاتهما إلا في زخم التوقعات المبالغة التي أوصلت الرئيس إلى منصبه؟ لأوباما جمهور واسع مستعد لأن يعتمد التسامح بل التساهل في تقييمه لأداء الرئيس الجديد في المرحلة الأولية، وذلك انطلاقاً من اعتبارات التغيير السياسي والجيلي والصوري التي كانت الأساس في دعم هذا الجمهور لشخص باراك أوباما. وفي المقابل، ثمة من يترصد الأخطاء ويستعد لأن ينقضّ على الرئيس الجديد إثباتاً لما يشكله من تحدٍ للصيغة النمطية، لا سيما عرقياً. وحالة التجاذب هذا، والتي قد تفوق مثيلاتها في مطلع العهود الماضية، تلزم أوباما التحلي بمزيد من الحرص من جهة، لكنها تمنحه هامشاً أوسع للتحرك من جهة أخرى. والواقع أن أوباما وطاقمه في هذه المرحلة الابتدائية يُبدون حاجة ملحوظة لهذا الهامش. فالأخطاء، ومنها ما يمكن إهماله واعتباره هفوات، ومنها ما يصعب غضّ النظر عنه، تتكرر. فأوباما الذي شدّد في حملته الانتخابية على ضرورة تطبيق معيار واحد لا معيارين في فرض القانون والتزام الطبقة السياسية به، اختار لحكومته ما لا يقل عن أربعة مرشحين تخلفوا عن أداء واجباتهم الضريبية في مرحلة سابقة قريبة. وإن كان ثلاثة من هؤلاء الأربعة قد اضطروا إلى سحب ترشحهم، وجنبوا أنفسهم والرئيس الجديد عناء مواجهة المزيد من التمحيص في الإعلام وفي الكونغرس، فإن الرابع، وهو تيموثي غايثنر، قد جرى تثبيته، وهو اليوم وزير الخزينة، أي المسؤول عن الوزارة المعنية بالشؤون الضريبية! ويشتكي بعض أنصار أوباما من سعي خصومهم السياسيين إلى فرض معيار مثالي في السلوك على طاقم الرئيس الجديد في حين كانت الحكومة السابقة مثخنة بالعيوب. وبغض النظر عمّا تخلفت عنه الحكومة السابقة، فإن أوباما نفسه هو الذي اختار المعيار المثالي، ويبدو اليوم أنه عاجز عن الالتزام به. وإذا كان اختيار من ارتأى الامتناع عن تسديد الضرائب إلى حين بروز اسمه لتولي منصب حكومي مسألة تغتفر، فإن اختيار أوباما للعضو السابق في مجلس الشيوخ توم داشل ليشغل كرسي وزارة الصحة يتجاوز جوهر الاعتبارات الأخلاقية التي فرضها الرئيس على نفسه. ذلك أن أوباما كان قد جعل من النفوذ غير المضبوط لمؤسسات الدعاية والتأثير اللوبيات أساساً لإدانته الأجواءَ السياسية السائدة في العاصمة الأميركية، وغياب الاهتمام بالشأن الحياتي للمواطن، وقطع على نفسه علناً، مراراً وتكراراً، عهداً بأنه لا مكان في حكومته للعاملين في هذه المؤسسات. وبالفعل فإن آفة معضِلة في العمل السياسي الأميركي هي ما يسمى بالباب الدوّار، إذ يتولى المسؤول مسؤوليته في إحدى الوزارات أو الهيئات الرسمية، وينمّي فريق العمل المعني بهذه المسؤولية، ثم يخرج من الحكم لينضم إلى مؤسسة دعاية وتأثير تتواصل مباشرة مع جهة مسؤوليته السابقة، فيكون بالتالي ناجحاً في سعيه إلى التأثير، وينال من هذه المؤسسة الخاصة المكافآت المتلازمة. والباب الدوار إشارة إلى تتالي المسؤولين على الاستفادة من هذا الترتيب، بين المسؤولية العامة والفرص الخاصة. وقد سبق لهذه الآفة أن شخّصت مرّات عدة وجرى استصدار التشريعات والقرارات لمعالجتها فكانت تنحسر ثم تعود فتستشري. وأوباما كان قد تعهد باجتثاثها، أقلّه في إطار طاقمه الحكومي، ومن هنا يأتي اختياره توم داشل ليتعارض تماماً مع هذا التعهد. ذلك أن داشل، بعد خروجه من مجلس الشيوخ قد جنى المبالغ الطائلة في نشاط لصالح مؤسسات عاملة في القطاع الصحي، ولو جرى تثبيته وزيراً للصحة لكان لهذه المؤسسات الخاصة صديق وموظف سابق في موقع تنفيذي يطال مصالحها مباشرة. ونتيجة للملاحقة الإعلامية للموضوع، انسحب داشل وأعلن أوباما أنه"أخطأ"في الاختيار. وبالفعل أخطأ أوباما، خطأً جسيماً. والخطأ الجسيم الآخر الذي ارتكبه، في ما يتعدّى الأبعاد المعنوية، هو في أقل تقدير تخلفه عن مراجعة حزمة التنشيط الاقتصادي للتأكد من خلوها من الإضافات الاستفادية. فالخوف الشديد الذي ينتاب المجتمع الأميركي نتيجة للمفاجآت المتوالية التي تفصح عن عمق الأزمة الاقتصادية، أتاح للحكومة طرح مشروع قانون يلزم الدولة بصرف ما يزيد عن 008 مليار دولار في أنشطة يفترض أن تكون هادفة إلى معالجة الأزمة. غير أن مراجعة تفاصيل هذا المشروع تكشف عن إدراج مخصصات ضخمة لمشاريع وأنشطة لا علاقة لها بالأزمة الاقتصادية، بل تستفيد منها جهات ذات تأثير على أعضاء في الكونغرس أو في الحكومة. وهذا الإلحاق المخفي هو ما يعرف في المصطلح السياسي الأميركي بتوزيع لحم الخنزير. وكان أوباما قد وعد جهاراً بأن ينهي هذ التوزيع، وإذا بمشروع القانون الذي تعتمده حكومته يحتوي على كميات ضخمة من لحوم الخنزير الجاهزة للتوزيع! والأخطاء قد وقعت كذلك في بعض الخطوات ذات الطابع الرمزي الهادفة إلى تحسين صورة الولاياتالمتحدة في العالم. فأوباما، في شبه إدانة لمسلك الحكومة الأميركية السابقة، وقّع على قرار تنفيذي يحظّر التعذيب، في خطوة اعتبرها أنصاره دليلا على منهج جديد وتوجّه أخلاقي للولايات المتحدة. إلا أن قراراً آخر وقّعه أوباما كذلك، يثبت الأذن للجهات الأمنية الأميركية تسليم المعتقلين لدول أخرى، وهو الإجراء الذي يتيح استجواب هؤلاء المعتقلين وفق أساليب غير معتمدة أو محظورة في الولاياتالمتحدة. خطأ أخر، أو نفاق؟ لا شك أن أوباما يحتاج إلى المزيد من الوقت ليحسم أمره حول كيفية تطبيق وعوده وكيفية الالتزام بمبادئه. ويبدو اليوم أن عموم الأميركيين على استعداد لمنحه الوقت الكافي لذلك. نشر في العدد: 16746 ت.م: 08-02-2009 ص: 18 ط: الرياض