بعد خمود المعركة الانتخابية، في مبالغاتها التلقائية خطابياً وإعلامياً، تدخل الولاياتالمتحدة المرحلة الانتقالية بين انتخاب الرئيس الجديد وتوليه سلطاته من الرئيس الحالي. وليس من المبالغة القول بأن هذه المرحلة، لا الحملة الانتخابية، هي التي تحدد معالم السياسات التي سوف تعتمدها الحكومة الجديدة على مدى الأعوام الأربعة المقبلة. وإذا كان اختيار فريق العمل هو المؤشر الصادق، فإن الرئيس المنتخب باراك أوباما يسير باتجاه تموضع سياسي ومنهجي يشكل متابعة، بعد انقطاع، للتوجه الذي اعتمده الرئيس السابق بيل كلينتون، والذي أطلق عليه بنفسه اسم الكلينتونية. يمكن للمواطن الأميركي، ظاهرياً على الأقل، أن يقارن ويعارض بين حقبتين في ماضيه المباشر، كل منهما استمرت ثمانية أعوام، وكل منهما قابلة للاختزال عبر ربطها باسم من كان الرئيس خلالها. فأعوام كلينتون شهدت رخاء قلّ نظيره في التاريخ الأميركي، مع ردم العجز في الموازنة العامة واستبداله بفائض متصاعد، وتزامنت مع تأكيد الولاياتالمتحدة على أحاديتها القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والانتقال من خلال العولمة والمؤسسات الدولية إلى إرساء نظام عالمي جديد يقرّ حكماً بالصدارة للولايات المتحدة على كل صعيد. أما أعوام بوش فابتدأت باعتداء طال الأراضي الأميركية وهزّ ثقة المواطن بأمنه، واستهلكت بحرب في العراق التي استنزفت البشر والمال وأساءت إلى صورة البلاد في العالم، وانتهت بأزمة اقتصادية ومالية يخشى العديد أن تكون الضربة القاضية داخلياً وخارجياً. طبعاً، هذا التصوير مفعم بالانفعالية التي تتجاهل أن الفضل في الرخاء والقوة في أعوام كلينتون لا يجوز حصره بسياسات الرئيس كلينتون، بل لا بد من تقصي أصوله في ما سبق، لا سيما في النهج الذي سلكه الرئيس الأسبق رونالد ريغان، كما أن ما نتج عن أعوام كلينتون من سياسات أسّس بدوره لبعض ما شهدته أعوام بوش من تراجعات، بما في ذلك الأزمة الاقتصادية الحالية. وإذا كان ثمة إجحاف موضوعي في الحكم على أعوام بوش، فإن المسؤولية تقع على فريق العمل التابع للرئيس نفسه في تخلفه عن التواصل المنتج مع جمهوره، كما مع بقية العالم. على أي حال، فإن الناخب الأميركي قد أكّد على رغبته في التغيير عبر اختياره أوباما، وإن لم يكن على شكل"الزلزال"المتوقع إعلامياً. وإذا كان أوباما المرشح متشدداً في طرحه لشعار القطع مع الماضي، فيبدو أن أوباما الرئيس المنتخب يفيد ضمنياً أن الماضي المقصود هو حصراً أعوام بوش. والركون إلى طاقم الرئيس كلينتون كأساس لفريق العمل في المرحلة الانتقالية يكشف لدى أوباما عن حرص على الاستفادة من رصيد الخبرة والأداء في حزبه، كما يبدد المخاوف لدى من خشي أن يجنح الرئيس الجديد إلى سياسات اقتصادية واجتماعية متطرفة في تقدميتها. فالكلينتونية هي صيغة الحزب الديموقراطي للانزياح نحو الوسطية. ومع الكلينتونية، تمكن الديموقراطيون من استعادة زمام المبادرة رغم التقدم الراسخ للتيار المحافظ ثقافياً واجتماعياً. ونجاحهم هذا أرغم الجمهوريين عام 0002 على التوجه بدورهم نحو الوسط تحت شعار"المحافظة الرحيمة"الذي اعتنقه جورج دبليو بوش يومذاك. وفي حين أن أوباما استفاد من القصور الخطابي لدى خصمه، وعلى رغم القدرة الخطابية المشهودة التي تحلّى بها خلال الحملة الانتخابية، فإنه قلّما تمكن من تجاوز العموميات والاستدراكات. والشعار الذي طرحه أوباما، أي"التغيير"، بقي مبهماً قابلاً للتطويع وفق الظروف. فإذا كان ثمة اختصار جامع مانع للمهمة الملقاة على عاتق الرئيس العتيد، فقد كانت الكلمة التي ألقاها بيل كلينتون خلال المؤتمر الحزبي العام في أيلول سبتمبر الماضي، والتي شدّد فيها على ضرورة الدفع باتجاه الإنصاف في العبء الضريبي والخدمات والإنفاق وتجنيب تحميل الأجيال المقبلة تبعة الهدر، على المستوى المحلي، والعودة بالولاياتالمتحدة إلى دورها الطليعي في دعم المؤسسات الدولية وفي قيادة الخطوات المتعددة الأطراف عالمياً. وبطبيعة الحال، شدد بيل كلينتون على أن الرجل الصالح لهاتين المهمتين هو باراك أوباما، بل شارك، وإن بشكل محدود، في دعم أوباما في حملته الانتخابية. ما لم يقله بيل كلينتون في المؤتمر صراحة هو أن المطلوب من الرئيس الجديد العودة إلى الكلينتونية، حيث أن الشقين اللذين ذكرهما هما الكلينتونية بعينها. والواضح اليوم أن أوباما قد استوعب ما لم يقله كلينتون علناً، والوجوه التي تتوالى في طاقمه وجوه كلينتونية. فأوباما اليوم يسلك أكثر السبل المتوفرة أماناً، أي سبيل الاعتماد على الطاقات التي مكنت الديموقراطيين خلال أعوام كلينتون من تحقيق نجاحات يتوق المواطن الأميركي إلى تكرارها. وإذا كان هذا السبيل هو الأقرب إلى الأمان، في الأجواء المتلبدة اقتصادياً وأمنياً، فإنه ينطوي على صعوبة من شأنها الكشف عن معدن الرئيس الجديد. فأوباما المرشح، يوم تجنب اختيار هيلاري كلينتون لمنصب نائب الرئيس، رغم إلحاح العديدين، كان الغرض من قراره، جزئياً على الأقل، التأكيد على أن الفوز بالرئاسة سوف يكون فوزه، لا فوزاً مشتركاً له وللسيدة كلينتون، ولا ولاية ثالثة بالواسطة لبيل كلينتون. وهو، حين اقترب من ضمان الفوز، أصبح جزء من معركته إثبات جدارته بوصفه الزعيم الجديد للحزب الديموقراطي إزاء منافس صامت خفي هو بيل كلينتون. ورغم أن أوباما فاز بوضوح إزاء منافسه الجمهوري، فإن النتائج بالمقارنة مع التي حققها بيل كلينتون عام 2991 تبقى ملتبسة بعض الشيء: فأوباما تفوق على كلينتون عددياً يذكر أن المعركة عام 2991 كانت ثلاثية، بين ديموقراطي وجمهوري ومستقل، لكنه من حيث انتشار التأييد في مجموع المقاطعات لم يتفوق. واليوم يبدو أن الاختبار الجديد لقدرته على إبراز كفاءته القيادية هي في استيعاب بيل كلينتون، والذي ما زال حاسم الحضور والنفوذ، كما هو قد استوعب الكلينتونية. نشر في العدد: 16662 ت.م: 16-11-2008 ص: 28 ط: الرياض