أحياناً كثيرة، لا ننتبه إلى أن الذي يشكّل مركزاً للجذب في حياتنا اليومية، لا يكون بالضرورة شخصية عامة أو صرحاً كبيراً أو معلماً أثرياً أو مباراة رياضية ... أو أي شيء من الأشياء التي تشكّل محطاً للأنظار أو التي يروّج لها الإعلام. ثمة أشياء صغيرة حاضرة بيننا وأمور تحصل لنا يومياً، تجذبنا إليها، إلى حد الهوس. أشياء وأمور تحتل مساحة كبيرة من حياتنا، ونشعر شيئاً فشيئاً أنها تدخل حتى في أحاديثنا اليومية. وعندما نتكلّم عنها مع الآخرين، يستغربون مدى الأهمية التي نوليها لها، مثل الحديث عن"طقطقة"مكتومة تصدر عن جدران المنزل، لا نعرف مصدرها، ولكنّها تقض مضاجعنا. ويُضطر محدّثنا إلى مسايرتنا، من دون أن يخفي استغرابه حيال"الموضوع المهم"، الذي نحاول أن نلتمس خبرته في الحياة، للتوصّل إلى فهمه. ولعلّ مسايرته لنا تخفي شيئاً من الاستخفاف بالهوس البادي علينا. مركز الجذب تعريفاً هو النقطة أو الجزء الوسط لدى شيء ما. وهو أيضاً مكان يحصل فيه نشاط عام معين مثل المركز التجاري، أو شخص أو شيء يلفت الانتباه ويثير الاهتمام، أو مكان سلطة ونفوذ، أو مجموعة سياسية متميّزة في طرحها عما هو سائد، أو نجم رياضي من المشاهير... هذا التعريف المفصّل لا يتطرّق إلى الأمور العادية التي تحظى باهتمام شديد على مستوى الفرد والأسرة، أو العمارة، أو الزقاق. ويكاد التعريف يستخفّ بوجودها. وعليه، لا يعطي التعريف بمركز الجذب ومحط الاهتمام أي قيمة لسيارة عتيقة تجوب الشوارع وتلفت الأنظار، أو لهدير الغسالة الذي يثير الخلافات بين الجيران، أو للريموت كونترول، ذلك الجهاز التافه الصغير، الذي"يتناحر"عليه أفراد الأسرة، ويمنح من"ينتزعه"شعوراً بالقوة والسلطة. في"المعطف"، القصة القصيرة للكاتب الروسي نيكولاي غوغول 1809 - 1852، يشكل معطف مهترئ يرتديه موظف"نكرة"محط اهتمام لزملائه في الغرفة، ثم في الدائرة الرسمية فالمدينة كلها... ومنها إلى العالم أجمع من خلال ما نقله الكاتب الشهير. أكاكي أكاكييفيتش، موظف مواظب، ولكنه في الوقت ذاته نكرة، لا يحصل على ترقية ولا يطالب بها. ذنبه في دخول دائرة الضوء ثم الوصول إلى الشهرة، هو معطفه المهترئ، الذي عجز الخياط، في نهاية المطاف، عن رتقه. اهترأ كلياً ولم يعد حتى للإبرة والخيط الرفيعين مكان يتسللان عبره إلى قماشه. فقرر الخياط أن يصنع لأكاكي معطفاً جديداً، يدفع ثمنه بالتقسيط المريح. ولم يقتنع الموظف بذلك، إلاّ بعدما ضاق ذرعاً من سخرية زملائه ورؤسائه، وتهكّم زوّار الدائرة، وامتعاض الخيّاط من اضطراره إلى رتق ثوب بالٍ مرات ومرات... تغيّر كل شيء في حياة أكاكي ما إن لبس المعطف الجديد. عاد بقوة إلى دائرة الضوء. حتى أن رئيس الدائرة دعاه إلى حفلة عشاء في منزله... إلاّ أن"المنحوس منحوس حتى لو أضيئ له فانوس"، على قول عامي. فبينما كان أكاكي عائداً إلى منزله مزهواً، اعترضه لص وسرق معطفه الجديد. مات أكاكي قهراً. ولكنّه، كما يروي غوغول، ظل شبحاً يهيم في شوارع المدينة، يعترض المواطنين ويسرق معاطفهم. نشر في العدد: 16743 ت.م: 05-02-2009 ص: 22 ط: الرياض