باستثناء الآمال المعقودة على جهود الرئيس الأميركي باراك أوباما لإنقاذ السلام المكبل بمبادرات فاشلة ومماطلات إسرائيلية، لا يعوّل الأردن على مقاربات إيجابية من تل أبيب حول إقامة دولة فلسطينية مستقلة تجلب الأمن للمملكة، وذلك بعدما حسمت الانتخابات الأخيرة جنوح الإسرائيليين صوب اليمين. فنتائج الانتخابات أغلقت الباب أمام فرص تحقيق"حل الدولتين"، الهدف الأول لاستراتيجية الأردن العليا من أجل طي خيار"الحل البديل"للقضية الفلسطينية على حساب المملكة، وبات جلياً أن الشعب الإسرائيلي لم يصوّت للسلام، بل صوّت لوهم تحقيق الأمن في مواجهة ما يعتبره"إرهاباً فلسطينياً". فسواء شكّل الليكودي بنيامين نتانياهو أو تسيبي ليفني زعيمة حزب"كاديما"الحكومة القادمة، فإن تركيبتها وتوجهّاتها ستكون على الأرجح أكثر يمينية من الحكومة الحالية، بحسب وزراء ومسؤولين. وستواصل الحكومة الإسرائيلية تطبيق استراتيجية عمل قائمة منذ عقود عنوانها"إدارة الصراع وليس حلّه"بهدف كسب الوقت وإيجاد حقائق جديدة على الأرض المحتلة تطوّع لاحقاً لخدمة موقفها التفاوضي وجلب الأمن قبل السلام. الحكومة القادمة، برأي مسؤولين وديبلوماسيين عرب، ستستمر في توسيع المستوطنات واستكمال بناء الجدار الفاصل، ما سيزيد في معاناة الفلسطينيين، ويهدد الأمن الوطني والقومي للمملكة. خلال الحملة الانتخابية الأخيرة لم يخف مسؤولون أردنيون في الغرف المغلقة رغبتهم في فشل نتانياهو واليمين المتطرف لما ستسببه سياساتهم من إحراج للمملكة، التي وقّعت معاهدة سلام إشكالية مع إسرائيل عام 1994. هناك أيضاً العامل الشخصي. فالملك عبدالله الثاني لم يتعامل مع نتانياهو كرئيس للوزراء إلا لشهور قليلة بعد أن أعتلى العرش مطلع 1999 عقب موت والده الراحل الملك حسين. لكنه لم يرتح له، بحسب مسؤولين. وهو يعرف ليفني أكثر، من خلال كونها وزيرة الخارجية. في ذاكرة الملك الشاب موقف والده من نتانياهو كرئيس وزراء عقب اغتيال شريكه في معاهدة السلام، إسحق رابين خريف 1995. إذ أثبت المذكور للملك الراحل أنه صاحب خطاب مزدوج لا يمكن الوثوق بكلمته. وساهمت سياساته المتشددة ضد الفلسطينيين في ضرب صدقية خطاب السلام. اليوم يستعد الأردن للأسوأ: لا حل للدولتين ما لم تحدث معجزة. كما عليه العمل على تمكين الفلسطينيين أمنياً واقتصادياً للبقاء في أرضهم بانتظار حلم السلام. في الأفق يلوح مشهد انقسام فلسطيني خطير"سلطة"فتحاوية"ضعيفة تدير الضفة الغربية بقيادة الرئيس محمود عباس المنتهية ولايته الدستورية، وقبضة"حماس"في قطاع غزة تسعى لخطف راية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بقرار عربي منذ 1974. ازدادت شعبية"حماس"بعد معركة غزة في الداخل وفي المنطقة المقسومة بين محوري"الممانعة"بقيادة إيران وعضوية سورية، وقطر، و"حماس"و"حزب الله"، وما يسمى ب"محور السلام والاعتدال"بقيادة المملكة العربية السعودية ومصر، وعضوية الأردنوالكويت والإمارات والبحرين وغيرها. لذلك، وفي تحليل استباقي، ألقى الملك عبدالله الثاني الكرة في الملعب الإسرائيلي بدلاً من الاستسلام لما سماه"مشاريع مشبوهة"تسعى الى تحميل الأردن وزر فشل حل الدولتين من خلال الحديث عن خيار"الوطن البديل"أو"الخيار الأردني"، المشاريع التي تروج لها إسرائيل وأوساط أميركية نافذة وترفضها غالبية الفلسطينيينوالأردنيين. فخلال غداء عمل مع شخصيات سياسية في قصره يوم 17 من الشهر الحالي، تحدّث الملك للمرة الأولى وبصراحة عن أن عدم إنهاء الصراع على أساس الدولتين يهدد إسرائيل أكثر من غيرها. وأشار بوضوح إلى البعد الديموغرافي المتمثل في زيادة نسبة السكان العرب في إسرائيل إلى ما يقارب نصف السكان بعد عقد. واختتم بالقول:"إن الدولة اليهودية تحت الضغط اليوم، وليس الدولة الهاشمية". كذلك تجاهل عن قصد، ربما، الحديث عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية قبل عشرة أيام لقناعته بأن المواقف الإسرائيلية لا تختلف باختلاف الحكومات. فحلم السلام في الشرق الأوسط بات اليوم منوطاً بإدارة الرئيس الديموقراطي الجديد باراك أوباما التي عليها أن تقرّر: إما أن تسير على خطى الرئيس السابق جورج بوش في إدارة الصراع لخدمة المصلحة الإسرائيلية، أو أن تلعب دور"الوسيط النزيه"الذي يبدأ من حيث انتهى جهد سلفه على الأقل، بدلاً من إعادة اختراع عملية سلام جديدة. ويستعد الملك عبدالله الثاني لزيارة واشنطن بعد الانتهاء من القمة العربية العادية الشهر المقبل في الدوحة، ليحمل إلى أوباما موقفاً عربياً داعياً إلى الوقف الفوري للاستيطان وإطلاق مفاوضات"جادة وفاعلة"بين الإسرائيليين والفلسطينيين استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية ? السبيل الوحيد لإنهاء الصراع وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. مسؤول أردني رفيع قال ل"الحياة"إن المملكة تراهن على الرئيس أوباما لأنه"الشخص الوحيد القادر على إحداث تغيير في معادلة الصراع. فهو اختار عقب حفل تنصيبه في البيت الأبيض قبل أسابيع الدخول مباشرة إلى حلبة السلام والوقوف في منتصف الملعب بوضوح". وأطلق سلسلة خطوات سريعة لتعزيز وقف إطلاق النار في قطاع غزة ومناقشة سبل إحياء المفاوضات السلمية وشحذ همم رؤساء دول"الاعتدال العربي". اتصل بالرئيس عباس، وبالملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، والعاهل الأردني، والزعيم المصري حسني مبارك وطمأنهم حيال التزامه بتحقيق حل الدولتين. كما اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود اولمرت واستثنى الرئيس السوري بشار الأسد، مع أن دمشق تلعب دوراً محورياً في عملية السلام. لكنه استتبع ذلك بإيفاد السيناتور السابق جورج ميتشل إلى المنطقة، فيما جال فيها أيضاً مرشح الحزب الديموقراطي السابق للرئاسة الأميركية جون كيري، الذي توقف في محطتين مهمتين"دمشق وغزّة. ميتشل أكد للزعماء الذين قابلهم"أن منصبه الجديد كمبعوث رئاسي الى الشرق الأوسط يعني له دواماً كاملاً في المنطقة، وليس جزئياً، بهدف التوصل إلى حل عادل وشامل". ويستعد ميتشل لبدء جولته الثانية في المنطقة، كما ستصلها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون الشهر المقبل. وفي تحرك إعلامي ذي مغزى، أجرى أوباما مقابلة تلفزيونية مع فضائية"العربية"أكد خلالها احترامه للمسلمين الذين يرتبط معهم بصلات دم من خلال والده. ويعتبر مسؤولون ان تحركات أوباما الأخيرة، شحذت همم دول"الاعتدال العربي"في مواجهة تحدي غياب السلام والتغلغل الإيراني في فلسطين والعراق ولبنان، إضافة إلى تهديد طهران المستمر لأمن جيرانها في الخليج العربي واستقرارهم. كذلك ساهمت في تكريس شرعية الرئيس عباس، وشدّ عصب محور"الاعتدال"بعد نجاح قمة الكويت الاقتصادية في ترحيل الملفات العربية المتفجرة إلى قمة الدوحة. وللتجاوب مع تحركات أوباما، اجتمع وزراء خارجية تسع دول عربية في أبو ظبي قبل أسبوعين، بمن فيهم وزراء السعودية ومصر والأردن، من أجل التأسيس لقواعد اشتباك ايجابي لاختبار نيات واشنطن تجاه المنطقة. وقرر رؤساء الديبلوماسية تأسيس"جبهة التضامن العربي"بدلاً من كلمة"الاعتدال"سابقاً، لأنه لم يعد هناك تمايز بين محوري الاعتدال والممانعة عقب أحداث غزة، إذ طالبت دول مثل سورية، التي أوقفت مفاوضات سلام مع إسرائيل عبر تركيا، وقطر التي أغلقت مكتب تمثيل إسرائيل، بسحب المبادرة العربية للسلام في قمة الدوحة الأخيرة التي عقدت بمن حضر وبمشاركة إيران و"حماس". "جبهة التضامن"، بحسب مسؤول أردني آخر، تستهدف كشف المشروع الإيراني الإقليمي، الذي ظهر بصورة أكثر وضوحاً خلال معركة غزة. فإيران لم تعد صاحبة دور ونفوذ إقليمي فقط من خلال أعوانها العرب، بل أصبحت عامل تخريب مقصوداً لهيبة مصر والسعودية من خلال التشكيك والتحريض العلني. الرسالة الإيرانية واضحة اليوم: لا مكان في المنطقة إلا لقوى الممانعة والمقاومة، ولا تساهل ممكناً مع الولاياتالمتحدة والغرب، والدول العربية المتمسكة بطرح السلام. أما"جبهة التضامن"، فتسعى إلى فرز الموقف بصورة أكثر وضوحاً، وتطرح التضامن العربي أساساً لقاعدة اشتباك جديد في الإقليم، يسعى لتحقيق مصالحة بين"فتح"و"حماس"لتشكيل حكومة مقبولة فلسطينياً، تشرف على الانتخابات الرئاسية والتشريعية بهدف ايجاد شريك سلام فلسطيني حتى لو كانت"حماس"جزءاً من المعادلة المقبلة."الجبهة"على قناعة بأن لا مخرج لملفات المنطقة السياسية المتشابكة إلا عبر مصالحة فلسطينية تساند جهداً عربياً لتحريك ملف السلام عبر تأكيد الالتزام بمبادرة السلام العربية كأساس للتعامل مع إدارة أوباما. وبرأي المسؤول الأردني، لا تزال المبادرة العربية، التي تسعى سورية وقطر وغيرهما لسحبها"السلاح الفاعل الوحيد في المعركة الديبلوماسية، قبل التفكير في طرح خيارات أخرى". وتريد"الجبهة"تنقية الأجواء العربية قبل قمة الدوحة تماشياً مع المبادرة التي أطلقها الملك السعودي في قمة الكويت لحماية مصالح النظام العربي في إقليم آمن ومستقر من أطماع إيران، وإسرائيل وأميركا وتركيا"العثمانية"، وذلك عبر ايجاد أرضية مشتركة للتعاون بين الجميع لمصلحة الاستقرار. وتعتقد دمشقوالدوحة وغيرهما بأن الجبهة الناشئة تسعى للعمل مع إدارة أوباما لحشرها في الزاوية وإرغامها وأنصارها على تغيير سياساتهم في المنطقة قبل بدء الانفتاح الأميركي الموعود. على رغم مشاعر التفاؤل النسبي التي تسود أوساط صناعة القرار الأردني حيال نافذة الفرصة الأخيرة التي وفرها انتخاب الرئيس اوباما، يسيطر الترقب الحذر على أجواء النقاشات الرسمية. فإدارة اوباما الغارقة في وحل الأوضاع الاقتصادية والمالية الداخلية، لم تفصح عن تفاصيل استراتيجيتها السياسية الجديدة تجاه الإقليم. وهي لم ترسل المزيد من الإشارات بعد زيارة ميتشل. في الأثناء، يبقى سيف الزمن معلقاً فوق رقاب الجميع. إذ لن يستطيع أوباما التحرك باتجاه المنطقة إلا بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الذي قد يستغرق 40 يوماً منذ بدء المشاورات بين الأحزاب الفائزة، وذلك لاختيار مرشح الغالبية لتشكيل حكومة جديدة. وبالتزامن يخشى ساسة وحزبيون أن يرتكب الرئيس الأميركي أول خطأ تجاه عملية السلام عندما قرر أن"يشبك"مع معسكر الاعتدال، ولم يسر باتجاه فتح حوار مع سورية وإيران و"حماس". ويشير أحد السياسيين إلى استمرار واشنطن في التعامل مع المنطقة بازدواجية مقلقة. ويضيف:"إذا قبلت الإدارة الأميركية بوجود حزب"إسرائيل بيتنا"بقيادة العنصري أفيغدور ليبرمان في الحكومة القادمة لأنه جاء عبر صناديق الاقتراع، فعليها أيضاً ان تقبل التعامل مع"حماس"التي دخلت السلطة الوطنية الفلسطينية عبر الانتخابات التشريعية عام 2006". ويتابع في لقاء مع"الحياة"أن"أوباما أعاد فرض شروط الرباعية الدولية على"حماس"بما فيها الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود وإنهاء المقاومة كأساس للحديث معها، لكن عليه الطلب من إسرائيل أن تحدد حدود دولتها، وأن توقف تصوير المستوطنات والإرهاب ضد الفلسطينيين". ويختتم:"السياسة الأميركية تغيرت في الشكل وليس في المضمون. أما الانتخابات الإسرائيلية فلم تتغير في الشكل ولا في المضمون، وجبهة التضامن العربي تغيّر اسمها لكنها لن تنجح في استقطاب قطر، أو سورية إليها من دون أن تحقق سورية مكاسب سياسية في لبنان وفي الجولان".