اتجاه اسرائيل نحو اليمين واليمين المتطرف وما افرزته نتائج الانتخابات العامة من ميول عنصرية خطرة لم يكونا مفاجئة لأحد. فالأجواء الساخنة التي عاشتها المنطقة خلال السنوات الثلاث الاخيرة التي بدأت بحرب لبنان وانتهت بحرب غزة، والتوتر الامني السائد حتى عندما خمدت مدافع الحرب... كل ذلك خلق اجواء جعلت الخوف من مستقبل غير آمن يسيطر على الاسرائيليين. احد النماذج على ذلك هو الحالة التي عاشتها منطقة الشمال. فعلى مدار سنة كاملة واسرائيل على استعداد لمواجهة احتمال الانتقام لمقتل القائد العسكري ل"حزب الله"، عماد مغنية، وقد شهدنا خلال هذه الفترة: رفع حالة التأهب على الحدود الشمالية. تعليمات جديدة للجيش عن كيفية منع عملية اختطاف، وتأهب في الممثليات الاسرائيلية والمؤسسات اليهودية في أنحاء العالم حيث طاقم مواجهة الارهاب يصدر التعليمات الجديدة ويحذّر من السفر الى دول معينة ويقرر الرقابة على عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية. من جهة سورية، وعلى رغم الرسائل التي اطلقها الرئيس السوري بشار الاسد، عن رغبته في السلام، إلا ان الجيش الاسرائيلي واصل تدريباته العسكرية في الجولان ولم يتأخر وزير الدفاع ايهود باراك، ورئيس اركان الجيِش غابي اشكنازي، عن المشاركة الفعلية فيها وتحويلها الى منبر لاطلاق التهديدات والترويج لاستعداد اسرائيل لمواجهات على كل الجهات في آن واحد، ما اثار اجواء توتر في المنطقة وبين الاسرائيليين، سرعان ما دفعت بأصوات حاولت التخفيف من أبعاد هذه التصريحات، وبرز في هذا الجانب رئيس الحكومة ايهود اولمرت، الذي كان يتبع تصريحات باراك بأخرى ألطف منها في محاولة لتهدئة التوتر، مشيراً الى ان اسرائيل لا ترغب بحرب مع سورية وانها تحاول تجنب التدهور العسكري جراء سوء فهم بين الطرفين. وعلى الحدود الجنوبية، مع"حماس"، لا يمر اسبوع الا وتعلن جهات امنية وعسكرية عن تقارير تؤكد فيها ان ايران و"حزب الله"وسورية تواصل تعزيز قدرات"حماس"العسكرية، وفي التقارير: - عناصر حماس باتت متدربة على استخدام اسلحة متطورة. - مقاتلون من"حماس"يتسللون الى ايران وسورية للتدريب على كيفية صناعة الاسلحة. - حيازة"حماس"صواريخ تصل حتى تل ابيب. وترافقت هذه التقارير مع قصف جوي اسرائيلي على غزة والرد عليها بصواريخ فلسطينية، فلم يسجل على مدار اكثر من سنة سوى مقتل ثلاثة اسرائيليين وأضرار خفيفة، لكن الاجواء كلها سجلت ارتفاعاً للاصوات الداعية الى معاداة كل من ينطق بالعربية. وتوج هذا الاحتقان بالتقارير التي تتحدث عن خطر ايران وتسلحها النووي على وجود الدولة العبرية. هذه الاجواء تحولت الى تربة خصبة ينمو فيها اليمين واليمين المتطرف ويزدهران. وبصمت وهدوء عملت قيادة الاحزاب اليمينية على استغلال كل لحظة فيها. بنيامين نتنياهو لم يتصدر طوال هذه الفترة الواجهة، وأفيغدور ليبرمان لم يذكره احد، منذ ان استقال من الوزارة التي ترأسها في حكومة اولمرت"لمواجهة التهديدات الاستراتيجية"ومن ثم الائتلاف الحكومي. وحتى الاحزاب المتدينة من"شاس"و"البيت اليهودي"و"الاتحاد القومي"... كلها عملت كالعشب الذي ينمو بين الصخور ويبدو ميتاً، لكنه يبقى حياً ثم يستيقظ مزدهراً ومنتعشاً لمجرد ارتوائه بالأمطار... هكذا ارتوت هذه الاحزاب بصمت على مدار هذه الفترة من أجواء التوتر والتحريض واثارة الرعب والخوف بين الاسرائيليين لتستيقظ مع الاعلان عن مجرد احتمال انتخابات قريبة عند كشف فضائح الفساد لأولمرت والحديث عن احتمال تقديم لائحة اتهام ضده. وجعل كل من نتنياهو وليبرمان التهديد الامني الذي تدعي اسرائيل انها تتعرض له، محوراً مركزياً لاستقطاب الجمهور الاسرائيلي. ساعدتهما في ذلك حال السبات التي دخلت فيها حركات اليسار الاسرائيلي وتركت الحرية لاحزاب اليمين تطلق برامجها بين الجمهور الاسرائيلي من دون منافس قوي. اما احزاب الوسط والمركز فانشغلت في صراعاتها الداخلية ومصالح قادتها الشخصية، ما انعكس حتى في التصريحات التي كان يطلقها قادة الحزب، اذ كانوا يحرصون على الترويج لعظمتهم وقدرتهم على التحدي، وأبرز هؤلاء كان وزير الدفاع وزعيم حزب"العمل"ايهود باراك، الذي حرص طوال الفترة على اظهار شخصية"الجنرال الذي لا يتفوق عليه احد"، وأنه المخلّص الوحيد للاسرائيليين من الوضع الامني الخطير الذي يواجههم في المنطقة. ولم يختلف اثنان بأن هذه الاعتبارات كانت الدوافع القوية لشن العدوان الاسرائيلي الاخير على غزة. فقد انتعش باراك فور انتهاء العملية العسكرية"الرصاص المسكوب"في استرجاعه عدداً كبيراً من الاصوات التي خسرها، حيث اشارت استطلاعات الرأي الى ارتفاع شعبيته بعد حرب غزة... وباراك كان الواجهة للتصريحات والتهديدات تجاه سورية وايران و"حزب الله"، وحتى الايام الاخيرة من حملته الانتخابية اختار الحدود الشمالية ليطلق تهديداته ل"حزب الله"والحكومة اللبنانية بتحميلها مسؤولية اي اعتداء ينفذ على اسرائيل. هذه التهديدات التي لم تتوقف ترافقت مع اطلاق صواريخ من الحدود الشمالية مرتين خلال عام 2008 ومرتين خلال الحرب على غزة ومن غزة جنوباً. وعلى رغم ان اسرائيل ردت في المرتين الاخيرتين على لبنان وطوال الوقت على غزة، لكن هذا الرد لم يرو ظمأ اليمين الاسرائيلي، فاستغل الامر للترويج لضعف القيادة السياسية وعدم قدرتها على وضع حد لتهديد الصواريخ. وكان حديثهم قد أقنع الاسرائيليين اكثر عندما تواصل اطلاق الصواريخ على الجنوب بعد اعلان قرار وقف اطلاق النار وإنهاء العملية العسكرية"الرصاص في غزة"عندها عادت شعبية باراك الى التراجع لترتفع في المقابل شعبية ليبرمان ونتنياهو حتى حقق الاثنان مكاسب كبيرة في الانتخابات العامة. وفي هذا الجانب تحدث مدير حملة ليبرمان الانتخابية، جورج برنباوم، بكل صراحة عن انه وخلال الدراسة التي اجريت قبل انطلاق المعركة الانتخابية، تبين ان المواطن الاسرائيلي يضع قضيتي الامن العام والامن الشخصي في رأس اهتماماته. وقال برنباوم ان ليبرمان في هذين الموضوعين بالذات يتحدث في شكل دائم، حيث طرح المخاطر الاستراتيجية التي تواجه امن اسرائيل، وعليه تقرر التركيز في الدعاية الانتخابية على هذين الموضوعين. وهنا يعترف برنباوم بأن شعبية زعيم الحزب بدأت تتراجع مع انطلاق الحملة العسكرية على غزة مقابل ارتفاع شعبية"كاديما"و"العمل"اللذين ادارا الحرب، وقال ان هذا الوضع اوقع الحزب في مشكلة"واصبحنا امام وضع لم تعد تصريحات ليبرمان بتصفية"حماس"وتدميرها تنفع لمعركتنا الانتخابية. وبدأ يسود القلق من خطر الهبوط حتى جاءنا الفرج من تظاهرات المواطنين العرب في اسرائيل وتصريحات النواب العرب في الكنيست ضد الحرب". واضاف:"ولما لاحظنا ان 96 في المئة من الجمهور اليهودي غاضب عليها وقلق من تبعاتها الخطيرة على مستقبل اسرائيل وأمنها انطلقنا الى العمل من هذه النقطة". وبحسب برنباوم، فقد بينت دراسة بين الجمهور الاسرائيلي ان تصرفات فلسطينيي 1948 تقلق الاسرائيليين، اذ انهم باتوا يخشون من ان يتحول العرب الى"طابور خامس"يضرب اسرائيل من الداخل في أول حرب مقبلة، وهكذا انطلقت الحملة الدعائية ضد العرب تحت شعار"من دون اخلاص للدولة لا توجد مواطنة". وضمن ما شملته الحملة الدعوة الى الخدمة الاجبارية في الجيش أو خدمة مدنية بديلة. ومن دون خدمة، لا تعطى مخصصات من مؤسسة التأمين الوطني، ولا تعطى المواطنة لمن لا يقبل اسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية ومواطنة للمخلصين فقط. وبدأت تظهر نتائج هذه الحملة في استطلاعات الرأي، حتى اعطته 15 مقعداً، وهناك من توقع له العشرين. وفي الانتخابات نجح ليبرمان في ان يصبح الكتلة الثالثة، والمفاجأة كانت في ان شعبية ليبرمان لم تقتصر على اوساط الروس الذين يدعمونه في شكل عام، انما اخترقت اوساطا عدة بين بقية فئات المجتمع الاسرائيلي وحصل على اصوات من اليمين الداعم لنتنياهو ولحزب"شاس"المتدين. ... الجولان المفاجأة الاكبر اما المفاجأة الاكبر لليبرمان، فكانت في حصوله على اصوات غير قليلة من سوريي الجولان. المفاجأة الاولى في الجولان كانت في وجود 809 سوريين يحملون الجنسية الاسرائيلية خلافاً للوثيقة الوطنية التي يلتزم بها سكان الجولان المحتل. فحتى اهالي الجولان فوجئوا بهذه المعطيات التي كشفت عنها وزارة الداخلية الإسرائيلية في سجل الناخبين، والتي لم يحسب حسابها حاملو الهويات الاسرائيلية الذين لم تكشف هويتهم على مدار السنين التي حصلوا فيها على الجنسية الاسرائيلية. فجميعهم توجهوا يوم الانتخابات الى مستوطنات الروم ودفنة ودان للإدلاء بأصواتهم بعيداً من اهالي الجولان، ليس خوفاً من ان يتحول موقع الصناديق اذا وضعت في الجولان الى شعلة نيران، كما قال احد سكان الجولان، انما ايضاً بسبب خوف حاملي الجنسية الاسرائيلية من كشف هوياتهم . وقال مواطنون من الجولان ان الجميع كانوا يدركون ان بعض السكان يحملون الهوية الاسرائيلية. وقد حسموا مصيرهم بعدم العودة الى سورية وارتبطت مصالحهم بالسلطات الاسرائيلية. ومع اقتراب الانتخابات توثقت علاقتهم مع شخصيات في اليمين الاسرائيلي قريبة من ليبرمان نجحت في استقطابهم انطلاقاً من عدم رغبتهم في اعادة الجولان الى سورية، ووجدوا في حزبي"اسرائيل بيتنا"برئاسة ليبرمان و"شاس"اكثر الأحزاب الرافضة لسلام يضمن عودة الجولان لسورية، وهذا جانب دفع الكثير منهم الى التصويت لمصلحة هذين الحزبين. اما الجانب الآخر في كسب الاصوات لمصلحة ليبرمان فلم يقتصر على الناحية الايديولوجية انما المالية ايضاً، وقد نجح ليبرمان في كسب اصوات كثيرة عبر المال وبينها ايضاً الاصوات السورية.