الطيب صالح هو أحد أعمدة الأدب العربي الحديث، سواء على مستوى رواياته وقصصه، أو على مستوى نثره الفريد الذي يذكرك بنثر محمود درويش. ربطتني به علاقة أخوية متينة جداًَ، ذلك أنه كان يعتبر أن الصعيد المصري امتداد للسودان والعكس، وأن الكثير من عوالمنا مشتركة، وهو عندما قرأ روايتي الشعرية"أحمد سماعين"جاء خصيصاً إلى القاهرة للتعرف عليّ، وأنا حين قرأت له"عرس الزين"و"مريود"و"بندر شاه"و"دومة واد حامد"اكتشفت أن لديه شخصية محورية اسمها"أحمد سماعين"وكان كلما التقينا يهتف بي:"حاذر يا مولاي فنحن نغترف من البئر نفسها". وأنا لا أظن أن الطيب صالح نال ما يستحق من تقدير في بلاده وفي العالم العربي. وهو على أية حال كان خبيراً بتراثنا العربي كما أن ثقافته الإنكليزية أفادته في الاطلاع على الأدب الأوروبي، ومع ذلك فإنه كان ينسى وهو يكتب أنه ذلك المثقف الكبير ويعود مجرد شخص عادي من قرية كرمكول القريبة من قرية دبة الفقراء في شمالي السودان، وهي القرية التي كتب عنها كثيراً من دون أن يذكر اسمها. وأثناء انشغالي بجمع السيرة الهلالية كنت ألتقي الطيب صالح كثيراً مع الناقد الراحل رجاء النقاش ضمن مجموعة أصدقاء لم يغيرها. وأنا الآن أعتقد أن روايته الفريدة"موسم الهجرة إلى الشمال" ستظل زاداً كبيراً للمثقفين العرب، وقد لا تكون أعماله المتواترة بعد ذلك لاقت الرواج نفسه، إلا أنني بصفتي أنتمي إلى صعيد مصر أعتز بهذه الأعمال ولهجتها الفريدة المنتقاة، وبالشعر المبثوث في ثنايا لغته، والتكثيف العالي للتواريخ السودانية القديمة خصوصاً في"بندر شاه"و"مريود"، وهو يحكي عن تكون مملكة سنار وتلك الأزمنة التي لم نرها، وربما لم يصل هذا الجهد جيداً إلى القراء لصعوبة العامية السودانية، ولكن آن الأوان لإعادة قراءة هذين العملين. وعموماً فإننا بفقدنا هذا الأديب العظيم ينكسر عمود مهم جداً في الثقافة العربية وتتداعى نخلة يفوق سموقها سموق"دومة واد حامد". رحم الله الطيب صالح وألهمنا الصبر على غيابه، فقد كان نعم الصديق. عبد الرحمن الابنودي غياب الطيب صالح يعد خسارة فادحة بعد احتضاره الطويل وموقف بلده الملتبس تجاهه. وأود هنا أن أذكر أن انطلاق شهرة هذا الأديب العربي الكبير انطلقت بصفة أساسية من مصر بعد أن نشرت سلسلة"روايات الهلال"روايته"موسم الهجرة إلى الشمال"بمقدمة لجبرا إبراهيم جبرا وبغلاف من تصميم الفنان حلمي التوني في أوائل ستينات القرن الماضي ثم صادرها الأزهر. وأذكر أيضاً أن نقاط التلاقي بين مصر والسودان كانت على رأس هواجسه، وهو كان من أوائل الذين أكدوا فكرة استحالة التقاء الشرق بالغرب خصوصاً عبر روايته"موسم الهجرة إلى الشمال". كما أذكر تواضعه الجم عندما قال يوماً ما إنه قرر التوقف عن كتابة القصة القصيرة بعد أن قرأ ليوسف إدريس، وموقفه الوطني العظيم عندما قرر ترك العمل في إذاعة ال"بي بي سي"احتجاجاً على مشاركة بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. يوسف القعيد على رغم متانة العلاقة بين الشعبين المصري والسوداني إلا أن الحركة الثقافية في مصر لم تلتفت سوى لأسماء سودانية قبل بروز الطيب صالح الذي فرض على تلك الحركة الاهتمام بالأدب السوداني. والطيب صالح هو مثال نادر لقدرة الأديب على تخطي الظروف غير المواتية فما أضافه في الرواية والقصة تجاوز حدود الإضافة إلى مجرى تطور الأدب السوداني، فهو أنجز نقلة في الرواية العربية عموماً، وظل في الوقت نفسه المثال العجيب لما يمكن لفرد أن يحققه من إنجاز غير مسبوق، وهو في ذلك فاق نجيب محفوظ الذي أنجز ما أنجزه ووراءه تاريخ أدبي مصري كبير ويواكبه واقع أدبي شديد التنوع والتميز. ويحسب للطيب صالح أنه فتح مبكراً طريق استلهام الأدب الشعبي والأسطوري، وهو الشيء نفسه الذي فعله الفريد فرج في المسرح المصري. وسيظل الطيب صالح مثالاً على أن المنجز الأدبي لا يقاس بكمية ما كتبه، ومن هذا المنطلق فإنه مقارنة بالأسماء التي نالت جائزة نوبل، كان جديراً بالترشيح للفوز بتلك الجائزة الأدبية الرفيعة. أحمد الخميسي نشر في العدد: 16757 ت.م: 19-02-2009 ص: 28 ط: الرياض