لا تختلف المشاكل التي تعاني منها الصحافة الأميركية المكتوبة عن مثيلتها في بقية أنحاء العالم. إذ يقوّض الزحف التكنولوجي حضورها الشعبي يوماً بعد يوم، ويؤدي الى خفض مبيعاتها، وصولاً الى دفعها الى طرد موظفين وإغلاق بعض مكاتبها الخارجية، أو حتى التوقف الكامل عن الصدور. ويشير استطلاع للرأي إلى ان نسبة الاهتمام بإصدارات الصحف في الولاياتالمتحدة تراجع من نسبة 46 في المئة عام 1946 الى 18 في المئة اليوم. وهذا ما يبرره واقع ان كلفة الاشتراك الشهري في صحيفة لا يقل عن 25 دولاراً، فيما لا تتجاوز كلفة الاشتراك بالانترنت 13 دولاراً شهرياً، مع إمكان تصفح عشرات الجرائد. لكن الأميركيين يملكون نظرة مختلفة الى أسباب التراجع المطرد لصناعتهم الورقية، خصوصاً انهم غير مقتنعين بقدرة مواقع الانترنت على تقديم التغطية المطلوبة للأخبار ومعالجة أبعادها بدقة ونفحة انتقادية، في ظل اعتمادها غالباً وسيلة الشمولية في تناول المواضيع وتفادي الاحتكاك ب"خصوصياتها"المؤثرة في الرأي العام. وكذلك، تعرض هذه المواقع تحليلات ال"بلوغرز"المغمورين أو أصحاب الآراء الموجهة وكتاب الأعمدة البعيدين عن مصادر المعلومات، والذين يبنون استنتاجات قد لا تصح. وتتعزز هذه القناعة بواقع ان عائدات إعلانات مواقع الانترنت لا توفر إلا نسبة 20 في المئة من عائدات إعلان الصفحة الكاملة في الصحيفة، ما يحتم تخصيص المواقع الإخبارية اشتراكات لتصفح محتواها. ويرى جيمس وارين، مدير التحرير السابق لصحيفة"شيكاغو تريبيون"، ان التراجع يرتبط بفقدان أرباب المهنة الحاليين إحساس التعامل مع الصحافة كواجهة لكشف المآسي الاجتماعية والسياسية والتحقيق في أبعادها، وصولاً الى إظهار حقائقها بالكامل. ورافق هذا الإحساس إنجاز كشف الصحافيين في جريدة"واشنطن بوست"، كارل بيرنشتاين وبوب وودورد، عام 1974 فضيحة"ووترغيت"الأكبر في تاريخ الولاياتالمتحدة، والتي سمحت للسلطة الرابعة بإظهار انتهاك الرئيس ريتشارد نيكسون صلاحيات سلطته، وتأكيد لمرة واحدة ربما ان الرئيس لا يستطيع ان يفعل ما يريد. ومثلت هذه المحطة التاريخية انتصاراً كبيراً للصحافة المكتوبة القادرة على صنع محطاتها الإبداعية الخاصة بعيداً من التقيد بميول السوق وأهوائه، والتي يمكن ان تكون"باردة"أحياناً في التقاط خبايا الأخبار وملاحقتها. لكن المحطة تحولت الى لحظة انهيار للعمل الصحافي المعتمد على الغوص في قلب القصص المثيرة للجدل، والتي تقود الى التغيير وتمهد حتى لتصويب مسارات سياسات داخلية وخارجية، وسن تشريعات جديدة"أكثر عدلاً". ويستلهم البعض انهيار العمل الصحافي من رد الرئيس نيكسون في مؤتمر صحافي عقده عام 1974 على سلسلة أسئلة"عدائية"وجهها المراسل دان رازر بقوله ساخراً:"هل تلمح الى أمر محدد؟ قبل ان يجيب رازر بلهجة عكست تراجعه المفاجئ:"كلا سيدي الرئيس هل تلمح أنت"؟ ولجأت الصحف الأميركية بعد"ووترغيت"الى تغطية الأخبار بأسلوبي المواجهة والاتهام السياسي اللذين طاولا الجمهوريين والمحافظين في الدرجة الأولى. أما أدوات التنفيذ فاعتمدت أقلام صحافيين ليبيراليين ألهمتهم روحية عبارة:"اذهب نل منهم"، لكن مع الحصول على نتائج سيئة على صعيد جذب انتباه القراء. وزاد ابتعاد الصحافيين الليبيراليين عن القراء، عدم قدرتهم على فرض أسلوب يتناسب مع متطلبات الجمهور العادي والذي يملك دراية غير كبيرة بالأحداث، وذلك بخلاف صحافيي جيل"ووترغيت"الذين تلقى غالبيتهم دراستهم الجامعية في معاهد تتوزع على ولايات بعيداً من الجامعات"الرنانة"مثل"يال"و"هارفرد"و"بيركيلي"، وربما لم يقصد بعضهم معهداً على الإطلاق. لقد وضع صحافيو جيل"ووترغيت"أنفسهم في خدمة القراء العاديين، وسعوا الى تلبية رغباتهم عبر مزج الأخبار بالتسلية، ما أفضى إلى"زواج تجاري"ناجح، لكن الأجيال التالية حملت معها فلسفة سياسية حاولت فرضها على المجتمع في سبيل إحداث تغيير في الأذواق والعادات، ووضع نهج جديد للإصلاح المنشود المربوط ب"ذهنية متعالية"، وهذا ما لم تتقبله شريحة كبيرة من القراء المنتمين الى الطبقة الوسطى والذين يعتزون بمواطنيتهم ويتحلون بنفحة تفاؤل بالمستقبل. والحقيقة ان النظرة العامة للأميركيين الى الصحافة المكتوبة اليوم تتمثل في إيلاء أربابها اهتمامهم الأول بتعزيز السلطة أو محاولة زعزعتها، لذا لا تتناول عناوينهم القصص الخاصة التي تنحصر غالباً في الجرائم المحلية. ولا يخفى في هذا الإطار ان صحيفة"نيويورك تايمز"صبّت جهودها في السنوات الثماني التي أمضاها الرئيس الجمهوري جورج بوش في البيت الأبيض على مؤازرة الديموقراطيين. وتحولت الى حليفة بامتياز للرئيس الحالي باراك أوباما، إلى درجة انها لم تتردد في طرد أحد كتابها الرئيسيين بيل كريستول بسبب تأييده للجمهوريين وتوقعه عام 2007 ان تكون حصيلة ولايتي بوش"مثمرة وناجحة". وحرم ذلك الصحيفة من فئة من الجمهور احتاجته لمعالجة أزمة ديونها البالغة 1،1 بليون دولار حالياًً، علماً انها قبلت أخيراً قرضاً بقيمة 250 مليون دولار من البليونير المكسيكي اللبناني الأصل كارلوس سليم في محاولة لتخطي الأزمة المالية. ويشير إعلاميون الى ان الإدارة السابقة للرئيس بوش استخدمت"حاشية خاصة"من الصحافيين وأخباراً ملفقة روجتها وكالات رسمية للتستر على الانتهاكات التي ارتكبتها على صعيد المعاملة السيئة لسجناء مشبوهين بالإرهاب والسماح بالتنصت وسواها، ما يؤكد افتقاد المهنيين الموضوعية، وسيرهم وراء ركب الدعاية السياسية التي لا تحتمل في مجتمع حر. وربما احتاج تصويب الوضع في عالم السلطة الرابعة الأميركية إلى إنشاء منظمات للحفاظ على حقوق الإنسان في الصحافة، بعدما ألقت بدلوها في مآسي الإدارة السابقة، بدلاً من السعي إلى فضحها. وهنا تبرز مشكلة انعدام الثقة في العلاقة بين الصحف والجمهور، وسط غزوات وسائل إعلام متنوعة باستخدام وسائل مختلفة عبر عنها أيضاً إعلان ترويجي أخير ل"نيويورك تايمز"أظهر أباً يطالع صفحة الرياضة في الصحيفة وأماً تتلهى بقراءة صفحة الموضة، وابنة تقرأ صفحة الانترنت. نشر في العدد: 16754 ت.م: 16-02-2009 ص: 32 ط: الرياض