تعود عبارة "السلطة الرابعة" إلى القرن التاسع عشر، وربما سبقته، ففي كتاب مرجعي يحمل اسم جامعة يال للعبارات المأثورة قرأتها منسوبة إلى عدد من أبرز الشخصيات، ومثال واحد يكفي فالمؤرخ والمفكر الاسكتلندي توماس كارلايل قال ان الفيلسوف البريطاني ادموند بيرك قال: "هناك ثلاث سلطات في البرلمان، إلا ان في شرفة المراسلين تجلس السلطة الرابعة، وهي أهم من تلك مجتمعة". الصحافة الأميركية هي في مقدم الصحافة الغربية، ولا أحتاج إلى مراجع لأثبت قدرتها ونفوذها ومهنتها، فقد تابعت بنفسي عظمة أدائها في حرب فيتنام، عندما كانت تغطيتها كذب الإدارة أهم من تغطيتها الحرب وأبعد أثراً، وأيضاً في فضيحة ووترغيت، من السطو على مقر انتخابي للحزب الديموقراطي في المبنى الذي حمل اسم الفضيحة، وحتى ارتكاب ريتشارد نيكسون جناية وهو يحاول التغطية على جنحة وما كان من سقوطه. كيف يمكن ان تفشل الصحافة الأميركية في التصدي لإدارة جورج بوش في حرب العراق، مع أنه متخلف عقلياً بالمقارنة مع ليندون جونسون وريتشارد نيكسون؟ تفسيري هو ان غالبية الصحافة الأميركية لم تهتم بما يكفي بالموضوع، لأن الحرب على عرب ومسلمين، وان أقلية مؤيدة لإسرائيل تواطأت مع الإدارة، ولفقت معها أسباب الحرب خدمة لإسرائيل، ولم تقف الغالبية بحزم في وجه الأقلية لأن عراق صدام حسين هو المستهدف. أعرف ان هذا ليس تفسيراً، وإنما تهمة، وأقدّر ان هناك من سيرد عليّ، ويرد لي التهمة، لذلك أقول انني لست فريقاً آخر ضد أي صحافة غربية، فهي صحافتي أيضاً، وقد قدمتني المسز جيليت أقول رحمها الله لأنني أرجح أن تكون توفيت إلى صحيفة"الغارديان"في الستينات في بيروت وأنا طالب وأعمل في وكالة"رويترز"، ولا أزال أقرأها بانتظام، وأعتبر"نيويورك تايمز"جريدتي المفضلة، وهو رأي صَمَد أيام كان وليام سافاير يكتب مقالاً سياسياً فيها. وفي حين اعتبر صفحة الرأي في"وول ستريت جورنال"ليكودية عنصرية، وقد توقفت عن قراءتها منذ سنوات، فإنني أقدر ان التغطية الخبرية لهذه الجريدة من أرقى مستوى مهني ممكن. وطبعاً لا أنسى جريدتي"واشنطن بوست"، بحكم إقامتي السابقة في واشنطن، و"لوس أنجليس تايمز"التي أرجو ألا يؤدي تغيير ملكيتها إلى تغيير في سياستها الليبرالية. وإضافة إلى هذا كله فقد كنت ضد صدام حسين عندما كان دونالد رامسفيلد حليفه، وبقيت ضده حتى سقط في حرب عارضتها لتوقعي ما ستجر من كوارث. كانت هذه مقدمة ضرورية وأنا أنقل إلى القرّاء صورة عن عمل الصحافة الأميركية في الأشهر التي سبقت الحرب والأسابيع التي تلتها، أي حول إعلان جورج بوش مساء 19/3/2003"في هذه الساعة، القوات الأميركية والحليفة دخلت المراحل الأولى من عمليات عسكرية لنزع سلاح العراق، وتحرير شعبه، وحماية العالم من خطر كبير". كيف استطاع جورج بوش، ان يعلن حرباً وهو الهارب من فيتنام إلى أمن تكساس والمعيّن رئيساً عبر المحكمة العليا بعد خسارته الأصوات الشعبية بفارق نصف مليون صوت مقابل آل غور؟ ألوم السلطة الرابعة، فقد كانت هناك أصوات ارتفعت محذرة، وأخرى قالت الحقيقة، إلا أنها ضاعت وسط جو الحرب. وسأقدم اليوم مختارات من الأصوات المحذرة متوكأ على مصادر أميركية أهمها جماعة FAIR التي ترصد الإنصاف المهني، على ان أكمل غداً مركزاً على دعاة الحرب والذين سكتوا عنهم القارئ المهتم يستطيع ان يطلب مني العناوين الإلكترونية لمصادر هذا العمل. المفتش السابق سكوت ريتر قال في 1/9/2002 ان فريق التفتيش تأكد من نزع سلاح العراق بنسبة 90 إلى 95 في المئة، وصحف نايت ريدر نسبت إلى"مسؤولين أميركيين كبار"عدم ملاحظة زيادة في تسلح العراق، أو في خطر نظام صدام حسين على أميركا. تظاهر مئات ألوف الناس ضد الحرب في بريطانيا في 28/9/2002، فأشارت إليهم"نيويورك تايمز"في فقرة واحدة، وقالت"واشنطن بوست"في خبر أن ألوفاً تظاهروا وفي خبر آخر ان عشرات الألوف تظاهروا. حصلت"نيوزويك"على اعترافات الجنرال حسين كامل، وهو أعلى عسكري عراقي يفر من نظام صدام حسين، وقالت انها تظهر ان العراق دمر أسلحته الكيماوية ووسائل إيصالها إلى أهدافها. نشرت"لوس أنجليس تايمز"تقريراً لوزارة الخارجية الأميركية يشكّك في المزاعم ان نظاماً جديداً في العراق سيؤدي إلى نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط، ونسبت وكالة"اسوشييتد برس"إلى ضباط استخبارات أميركيين قولهم ان العراق لا يشكل خطراً على أميركا. الصحافة الأميركية أهملت تحذيرات كثيرة من نوع ما سبق ثم تجاهلت سبباً واضحاً للحرب هو النفط، مع ان المعلومات المتوافرة كثيرة، فقد كانت هناك مجموعة عمل عن النفط حملت اسم"مجموعة تشيني"لاهتمام نائب الرئيس بها، وهي أصدرت تقريراً في أوائل 2001 يدعو الإدارة إلى فتح أسواق النفط العالمية، وهذا ما سيحققه قانون البترول العراقي الذي فرضه الاحتلال على حكومة نوري المالكي، وينتظر موافقة البرلمان. "واشنطن بوست"نشرت في 15/9/2002 ان احتلال الولاياتالمتحدةالعراق أكبر فائدة للشركات الأميركية الممنوعة من العمل في العراق. وبيل اورايلي في"فوكس نيوز"، قال ان صدام حسين"خطر على إمداداتنا النفطية من المنطقة". في 23/2/2003 كشفت جريدة"سان بيترزبرغ تايمز"ان ديك تشيني كلف معهد بيكر للسياسة العامة وضع تقرير عن أهمية العراق في حل"مشكلة الطاقة"الأميركية. وفي 8/3/2003 قالت"سان فرانسيسكو كرونيكل"ان شركة هاليبرتون، شركة تشيني السابقة، فازت بعقود من الحكومة الأميركية لإعادة بناء حقول النفط العراقية بعد حرب محتملة. وكانت وكالة الصحافة الفرنسية قبل ذلك بيوم ذكرت ان الجيش الأميركي كشف وجود عقود نفطية لشركة هاليبرتون في العراق... وهذا قبل الحرب. المفكر العظيم نوعام تشومسكي قال في مقابلة صحافية ان السياسة الأميركية سعت دائماً إلى السيطرة على النفط، والعراق في وسط احتياط نفطي هائل. كل هذا مرَّ مرور الكرام، أو اللئام، على الصحافة الأميركية، فأكمل غداً.