أبقى مع الصحافة يوماً آخر، وبعد حديثي عن قتل الصحافيين في العراق والتضييق على الحريات في كل بلد عربي، أكمل بصحافة العالم بعد أن أشكر مجموعة من شبان الصحافة العربية وشاباتها طلب مني الزميل يوسف خازم أن أحدثهم عن هموم الصحافة في جلسة الأسبوع الماضي في"بوش هاوس"، مقر هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي. شجّعت الشبان والصبايا وحذرتهم، فالصحافي العربي يقتل في العراق، وتخنق حريته في بلدان أخرى، واذا كان من عزاء، فهو ان صحافة العالم كله في تراجع، وإن لم تكن المشكلة الحريات، فهناك ضغوط أخرى تحد من حرية العمل الصحافي، فثورة التكنولوجيا تعني تحولاً مطرداً عن الصحافة المكتوبة، وانخفاض التوزيع يتبعه انخفاض الدخل من الإعلان، وتصبح الصحيفة تبحث عن خبر يهم القارئ أو يهتم به وليس الخبر المهم فعلاً. لعل مثلاً يغني عن ألف شرح، فقد عكست محاكمة الوارثة باريس هلتون، وسجنها ثم إطلاقها، وسجنها من جديد لإكمال مدة العقوبة، تدهور المهنة حتى في البلدان الديموقراطية ذات التجربة الصحافية العريقة. أثبتت استطلاعات الرأي العام ان عدد الأميركيين الذين تابعوا محاكمة باريس هلتون زاد كثيراً على الذين تابعوا اطلاق رواد الى الفضاء ذلك اليوم. ولقيت محاكمتها تغطية إعلامية زادت أضعافاً على خبر تنحية الجنرال بيتر بايس من رئاسة الأركان المشتركة، في وقت تخوض أميركا حرباً خاسرة في العراق ويقتل شباب أميركيون هناك كل يوم. وثمة قصة مشهورة من تلك المحاكمة. فالمذيعة التلفزيونية ميكا برزيزنسكي في شبكة"أم إس ان بي سي"رفضت أن تبدأ نشرة الأخبار بخبر عن باريس هلتون، الا ان المخرج أصر، وعاد فأرسل اليها الخبر لتقرأه، وكان ان المذيعة حاولت أمام الكاميرا إحراق الخبر وقد تملكها الغضب. اذا كانت الصحافة الأميركية الراقية تراجعت، فماذا عن أمر الصحافة العربية التي لم تتقدم أصلاً؟ قبل أن أجيب عن هذا أذكّر القارئ بأن تراجع الصحافة الأميركية بدأ مع فشلها في التصدي لكذب الإدارة في الحرب على العراق، وأحياناً تواطؤها معها، بعد أن كانت هذه الصحافة تحدت البيت الأبيض في حرب فيتنام وكشفت فضيحة ووترغيت وأسقطت ريتشارد نيكسون. والتراجع في الحريات الصحافية والقدرة والمسؤولية يلف العالم، ولجنة حماية الصحافيين أصدرت أخيراً تقريراً عنوانه"المتقهقرون"تحدث عن عشر دول تراجعت فيها حرية الصحافة أكثر من غيرها، وكان بينها من الدول العربية مصر والمغرب. التقرير لا يقول إن الصحافة في مصر والمغرب أسوأ منها في البلدان العربية الأخرى، بل ربما يقول العكس، فهو يعتبر الصحافة في هذين البلدين تراجعت لأنها كانت متقدمة عن غيرها، وبالنسبة الى مصر شكت اللجنة من الاعتداء على صحافيين ورفع 85 قضية جنائية ضد صحافيين خلال السنوات الخمس الأخيرة. وبالنسبة الى المغرب كانت الشكوى من سجن صحافيين وإبعاد آخرين عن العمل. والتقرير نفسه يقول ان الصحافة المستقلة في البلدين ازدادت جرأة. وكنت أشرت أمس الى أن أسوأ وضع صحافي عربي هو في العراق حيث قتل عشرات الصحافيين من عراقيين وأجانب، والسبب كارثة الحرب، غير ان لجنة حماية الصحافيين تقول ان باكستان شهدت قتل ثمانية صحافيين في السنوات الخمس الأخيرة وخطف 15 صحافياً. واذا كان هناك عذر لباكستان، وهي تواجه نصف حرب بين الداخل وعبر الحدود في أفغانستان، فلا عذر لروسيا حيث قتل 11 صحافياً في السنوات الخمس الأخيرة وسيطرت الحكومة على محطات التلفزيون الرئيسة الثلاث. وآخر ما قرأت عن روسيا ان الحكومة في موسكو بدأت تعاقب الصحافيين المعارضين بالطرد، فقد أُمِر اتحاد الصحافيين الروس بإخلاء مقره. في الوقت نفسه أطلقت روسيا محطة تلفزيون فضائية بالعربية، لا أتصور أن تكون فتحاً في عالم الصحافة، مع ما نرى من تضييق على الصحافيين الروس أنفسهم. وعندنا في هذا المجال تجربة الولاياتالمتحدة وتلفزيون"الحرة"، فقد أثبتت ان المحطة والعاملين فيها، من عرب وأميركيين، أفضل كثيراً من الإدارة والكونغرس، ونعرف أن"الحرة"كلفت مهمة مستحيلة هي الترويج لبضاعة فاسدة، حتى لا نقول مجرمة، وحاول القائمون عليها ممارسة الموضوعية الممكنة ضمن أضيق حدود، فحمل عليها مسؤولون في الإدارة وأعضاء الكونغرس حتى اضطر لاري ريجستر، المسؤول عن الأخبار، الى الاستقالة. ولعل النقطة الإيجابية الوحيدة في موضوع"الحرة"كانت انتصار"نيويورك تايمز"لها في مقال افتتاحي بعنوان"هواء الحرية"أيد سعي المحطة الى تقديم مواقف أعداء الولاياتالمتحدة. اذا كانت صحافة العالم ليست حرة، فصحافتنا لن تكون أفضل منها، ومع ذلك أريد أن أختتم بشيء ايجابي، فقد رجوت أمس أن تطلق مصر الحريات الصحافية لتتبعها الدول العربية كما تبعتها في التأميم. وأمامي تحقيق من أواخر الشهر الماضي نشرته"لوس انجليس تايمز"يقول ان القيود الصحافية خففت في مصر وانتقاد الرئيس حسني مبارك يمر عادة من دون عقاب. ولعل هذا الاتجاه يستمر في مصر ويصيب غيرها بعدواه.