انه الرابع عشر من شباط فبراير 2009، اربع سنوات مضت على جريمة اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري والنائب باسل فليحان ورفاقهما والضحايا المدنيين الذين سقطوا معهم في انفجار الألف كيلوغرام من الحقد، لكن الحدث لا يزال حياً. اولئك الناس الذين كانوا يحملون اولادهم او يجرونهم في عربات ويلوحون بالعلم اللبناني، ويسيرون بهم مشياً على الأقدام الى قلب بيروت، ليسوا ممن يملون التكرار. بدوا أمس اكثر اصراراً على المشاركة في احياء الذكرى، لأسباب لا تحصى لكنهم يذكرونها سبباً سبباً، وحدثاً تلو الآخر ولا يسقطون من ذاكرتهم أي كلمة او أذية مست وفاءهم. جلهم جاء طوعاً، اداروا محركات سياراتهم وحشروا الأولاد وحتى الأحفاد وتوجهوا الى بيروت منذ الصباح الباكر، قاصدين ساحة الشهداء، أتوا بكثافة من مختلف المناطق، فضاقت بهم الساحة وفاضت بهم الى الساحات المجاورة، وتأخر وصول سيارات وحافلات من مناطق الجبل والشمال بسبب كثافة السير، ومع مضي ساعات الصباح وانتصاف النهار كانت الجموع لا تزال تحاول الوصول الى المكان، كثر اغمي عليهم وأسعفهم الصليب الأحمر اللبناني، وعشرات الأطفال تاهوا عن اهاليهم وأعادهم شبان"التنظيم"الذين تغلغلوا بين الحشود وضبطوا ما امكن من التدافع، فيما نجح عناصر القوى الأمنية في تجنب الاحتكاك بين المتوجهين الى ساحة الشهداء وبين مناصري قوى 8 آذار، خصوصاً في الأحياء المتداخلة في بيروت والتي كانت مسرحاً لصدامات السابع من آيار الماضي، لكنها فشلت في تجنيب هذه الصدامات في طريق العودة ما ادى الى سقوط جرحى. مئات الآلاف شاركوا في احياء الذكرى، لكن الناس لم يقلقهم العدد وما انشغلوا في احصاء انفسهم على غرار السنوات السابقة، بدوا اكيدين من اكثريتهم، فهم جاؤوا كما قال رضا غندور الخمسيني"من اجل الرجل الذي أحبه لأنه احب لبنان وقضى حياته لخدمة بلده". غندور الآتي من محلة الشياح في ضاحية بيروت الجنوبية قال انه في كل سنة يشارك في احياء الذكرى،"نفوسي في الباشورة وسأنتخب اللائحة التي يشكلها سعد الحريري". انتظرت الجموع قادة قوى 14 آذار وصفقت لهم طويلاً ولوحت بالأعلام اللبنانية التي شكلت الغالبية المرفوعة مثلما رفع علم المملكة العربية السعودية، فيما رفعت مجموعات متفرقة رايات احزاب"التقدمي الاشتراكي"و"القوات اللبنانية"و"الكتائب"و"الوطنيين الاحرار"و"الاتحاد السرياني". ورفع كثر صور الرئيس رفيق الحريري ونجله سعد وآخرون حملوا صور راحلين مثل الزعيم كمال جنبلاط والرئيس رينيه معوض، ومفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد والنائب جبران تويني، وزيّن آخرون علمهم بصورة لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة. أما اللافتات فكانت قليلة وشاملة، رفعت عند اطراف الساحة، وحملت صور شهداء ما اصطلح على تسميته"ثورة الأرز"، فكتب على احداها"هم الشهداء وأنتم الشهود"، وعلى اخرى"مشروع حياة اسسه الشهداء"، اما الهتافات فكانت لحياة القادة ولا سيما لرئيس كتلة"المستقبل"النيابية سعد الحريري ورئيس"اللقاء الديموقراطي"النيابي وليد جنبلاط، وحين حاول بعض الفتية اطلاق هتافات تحريضية نهرتهم عجوز قائلة:"فشوا خلقكم في يوم آخر هذا اليوم لرفيق الحريري وبس". وكان لافتاً المشاركة الكبيرة لأنصار الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي. كان من الصعوبة بمكان رؤية قيادات قوى 14 آذار الذين تواروا خلف منصة قرب مسجد الأمين والتي احيطت بإجراءات أمنية فصلتها عن الجموع امتار عديدة، ففضل كثر الوقوف في مواجهة الشاشات العملاقة او تسلقوا الأسوار المحيطة بالمكان، أو افترشوا الأرض تحت مكبرات الصوت للاستماع الى الخطب التي القيت، والتي خلت في شكل ملفت من المواقف التصعيدية الداخلية وإن ركزت على الاستحقاق الانتخابي المفصلي المقبل. فأكد النائب الحريري ان"المحكمة الدولية على الأبواب ودقت ساعة الحقيقة"، وقال النائب جنبلاط:"لا عدو لنا في الداخل، والحوار فوق كل اعتبار"، واتهم قائد"القوات اللبنانية"سمير جعجع"البعض بمحاولة عرقلة قيامة لبنان ويريد دولة وهمية"، وقال الرئيس امين الجميل ان"الانتصار بالانتخابات هو الاقتصاص الحقيقي من المجرم"، وسأل رئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون الجموع:"أين اصبح من اقسم معكم قسم جبران تويني؟"، غامزاً من قناة رئيس"تكتل التغيير والإصلاح"النيابي ميشال عون. وبين الحشود الشعبية ومنصة الخطباء الذين لم يتجاوز عددهم الستة، مساحة خصصت للشخصيات السياسية، تقدمهم رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وقيادات 14 آذار بمختلف احزابها وتياراتها وتجمعاتها، وحين خاطب عريف المهرجان الخطابي الجموع قائلاً:"أنتم الأكثرية؟ لا بل الأكثرية على الطرق في الشمال والجنوب والجبل والمتن وكسروان"، كانت الساعة تجاوزت العاشرة والنصف صباحاً ولم يبدأ البرنامج المقرر، وعندما ضاقت الساحات بالناس خاطبهم عريف المهرجان قائلاً:"جئتم لتقولوا عشية المحكمة الدولية نحن الشاهد الملك. نحن الحق والحقيقة". وقدمت فرقتا"المدينة"و"الفيحاء"أناشيد وطنية وبينها"زهرة المدائن"، وأنشد الفنان احمد قعبور"اناديكم"، ورتلت ريم ديب ترتيلة"السلام عليك يا مريم"، وأنشدت غادة غانم قصيدة للشاعر طلال حيدر عن الرئيس الشهيد، وأدت نايلة جبران تويني قسم والدها الشهيد ورددته من بعدها الحشود، وحين هتف عريف المهرجان مرة اخرى"اننا لن ننجر الى خيانة رفيق الحريري"علت هتافات التأييد. تحدث الرئيس الجميل وتبعه النائب باسم السبع وشمعون وجنبلاط وجعجع وقبل ان يلقي الحريري كلمته كانت الساعة طابقت الواحدة الا خمس دقائق، لحظة الانفجار الكبير قبل اربع سنوات، عمّ الصمت اجلالاً لذكرى الرئيس الحريري. ورفعت فتاة وقفت قبالة المسجد صورة له كتب عليها"شمس لا تغيب"، وحين ظهر نجله سعد على الشاشات صرخت الفتاة نفسها"دخيل الله، الله يحميك". الناس في ساحة الشهداء لم تتعب، قال عوض اللهيب من الطريق الجديدة:"كل سنة آتي الى هنا، لكن هذه السنة الأمر مختلف، فالزعرنات التي ارتكبت في حقنا لا تنسى ودفعتني اكثر الى المشاركة، الله يكرم هذا الشعب كي يحب بعضه بعضاً"، اما قريبه احمد اللهيب فاعتبر ان النزول الى الساحة"كي يفهم الآخرون ان سعد الحريري ليس مقطوعاً من شجرة، صمتنا ولن نفعل بعد الآن". وأكدت"الهام"من الشوف ان"الجرح كبير والتحدي اكبر ولا ننسى ما حصل في 7 آيار ولا التحالف السوري ? الإيراني ضدنا، وحين يقول سعد الحريري"لبنان أولاً"فهو على حق". واعتبر عاصم بغدادي من محلة المزرعة في بيروت"ان الأمور تصل الى نهاياتها والحقيقة ستظهر مع انطلاق المحكمة الدولية والحق سينتصر وسنعرف من قتل الحريري". ووصف اديب غزيري من بتاتر الشوف ما حصل امس، بأنه"اول ورقة اقتراع، وإن شاء الله تكون الفصل بين الحق والباطل وبين المجرم والمظلوم". وحرصت السيدة وردة الآتية من محلة الجميزة على التمسك بمعرفة من قتل الحريري"الله يرحمه يكفي ما فعله من اجل لبنان"، وأكدت مع اقتراب المهرجان من نهايته على وجوب التصويت في الانتخابات"من اجل بيروت والحريري وفرنسوا الحاج وجبران تويني وكل الشهداء". اما مصطفى الراوي الآتي من عكار فاعتبر وجوده في ساحة الشهداء"كرمال دم رفيق الحريري لأنه عزيز كما دم شهداء غزة". ولم تخف تغريد البغدادي صادق وجودها في ساحة الشهداء هي الآتية من النبطية، وقالت ان جيرانها يؤيدون مجيئها، لكنها تهمس"المصالح تحكم الإنسان أحياناً لذلك هم غالبية صامتة، اما أنا وزوجي فنريد ان نقول لأولادنا اننا غيرنا في تاريخ لبنان". وقالت عايدة وهبي في طريق عودتها من الساحة الى منزلها في الشوف:"المحكمة باتت قريبة وأنا لم أعلق صورة لزعيم سياسي في منزلي إلا للرئيس الحريري لأنه لم يأت مثله، الله يحمي ابنه". شهادات من موسى وشيراك وعلاوي عبر الشاشات العملاقة الموزعة في ساحة الشهداء، بثت شهادات في بداية التجمع لكل من الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك والرئيس السابق للحكومة العراقية اياد علاوي تحدثوا فيها عن صاحب الذكرى. قال موسى:"قدّرته على المستوى الوطني وعملت معه على المستوى القومي، فكان دائماً رجلاً يؤمن بالعروبة وبالعمل العربي المشترك، وكان خير مؤيد وداعم لكل ما من شأنه تأييد العمل العربي المشترك". وأضاف:"كانت له أفكاره الاقتصادية المهمة التي تعلقت بإقامة منطقة التجارة الحرة والتوصل الى إطار زمني بالاتفاق على الاتحاد الجمركي كإقامة السوق العربية المشتركة، وكانت له أفكار كثيرة في مراحل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكم أفادتنا وأطلقت عدداً كبيراً من الموضوعات التي الآن ستتحقق". وبدأ شيراك كلمته بالحديث عن الصداقة التي كانت تجمعهما، وقال:"غالبية اللبنانيين كانت متعلقة جداً بما يمثله الرئيس رفيق الحريري الذي جسد بلده جيداً، وهذه الغالبية تلقت صدمة عميقة وأصيبت بفاجعة مما حصل. انني أعبر للبنانيين بصدق عن تعاطفي واحترامي لذكرى الرئيس الشهيد وتقديري وصداقتي واحترامي لكل ما يجسده". وحيا علاوي"أسرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومحبي لبنان والعالم العربي بذكرى الراحل العطرة التي لا تزال في أذهان كل القوى الوطنية والقيادات العربية". وقال:"لا شك كانت تربطني علاقة وثيقة جداً مع الرئيس الحريري، وكانت هذه العلاقة مبنية على أسس واضحة من الفهم المشترك لعناصر التأخر والتوتر في المنطقة العربية بالكامل، وبالتأكيد المشاكل التي يعاني وعانى منها العراق". ولفت الى انه"ما كان يشدني الى الشهيد رفيق الحريري هو الروح العصرية التي امتاز بها تفكيره الوطني والقومي عندما ربط المسائل القومية والأزمة القومية مع التنمية الاقتصادية في لبنان والوطن العربي وأيضاً مع دول العالم ومع المجتمع الدولي"، معتبراً ان"هذه الأمور كلها مترابطة ومشاكل العرب لا يمكن أن تحل إلا من خلال التعاطي مع هذه المشكلات الرئيسية في المنطقة العربية". وأكد ان"استشهاده لم يكن صدمة فحسب، وانما خسارة كبيرة للعراق وللقادة العرب، لأنه كان يلعب دوراً مهماً في تقدير وجهات النظر، في طرح موقف الاعتدال العربي وفي الدفاع عن قضايا العرب، وعلى رأسها القضية الفلسطينية". وكان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون جدد في بيان وزع ليل أول من أمس، في نيويورك"دعم الأممالمتحدة لجهود المحكمة الخاصة لكشف الحقيقة وجلب المسؤولين عن جريمة اغتيال الرئيس الحريري البشعة أمام القضاء ووضع حد لغياب العقوبة في لبنان". وقال:"هذه الذكرى الحزينة تأتي قبل أسبوعين من بدء عمل المحكمة الخاصة للبنان في الأول من آذار مارس المقبل". وحض"على تنفيذ كل القرارات الدولية الخاصة بلبنان". نشر في العدد: 16753 ت.م: 15-02-2009 ص: 19 ط: الرياض