لم تختلف كثيراً الوجوه والهتافات واللافتات التي اجتمعت في ساحة الحرية امس، عما كانت عليه في 14 آذار مارس الماضي، بل زادت اصراراً على المطالبة برحيل رئيس الجمهورية اميل لحود وعلى اتهام سورية بسلسلة الاغتيالات التي استهدفت رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ومن معه ومن تبعهم. فاجأت الحشود التي قصدت الساحة الجميع، ما عدا المتظاهرين انفسهم الذين لم تغير كل المخاوف الامنية عددهم، فنزلوا كما فعلوا دائماً افراداً وجماعات، امهات واطفالاً ومسنين، شباباً من الجامعات والمدارس، موظفين في مصارف وشركات ومؤسسات رسمية، مزارعين وعمالاً، جاؤوا من اقصى الشمال والبقاع والجبل والجنوب ومن شرق بيروت وغربها الى المكان الذي تشير فيه الساعة التي تعدّ الايام الى انه اليوم ال 366 على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كانت الغالبية ترتدي الاسود عنوان حزن لم يخبُ. كل الطرق الى ساحة النجمة كانت مفتوحة أمام الناس الذين ساروا على اقدامهم مسافات طويلة نظراً الى الاجراءات الامنية المتخذة. وتكرر مشهد الاعلام اللبنانية المرفوعة وبعض الرايات المتفرقة للحزب التقدمي الاشتراكي و "القوات اللبنانية" و "شباب المستقبل" واحدهم رفع العلم الفرنسي ايضاً. زاوج المتظاهرون في 14 شباط ما بين عيد الحب وذكرى استشهاد الحريري فحملوا قلوباً حمراً تتوسطها صوره أو بالونات من اللون نفسه طبع عليها رسم وجهه وكتب تحتها "نحبك"، مثلما حملوا وروداً حمراً وحاولوا الوصول الى الضريح لوضعها هناك، لكن قلة نجحت، فالجموع التي بدأت خجولة في الثامنة والنصف صباحاً تضاعفت اضعافاً مع مرور الوقت وبات الوصول في العاشرة الى الضريح أو المنصة التي نصبت بالقرب من تمثال الشهداء مجازفة العابر في يوم الحشر. العشرات اغشي عليهم نتيجة التدافع اسعفهم الصليب الاحمر اللبناني وفاضت بهم الخيم الطبية المنصوبة، والعشرات من الاطفال تاهوا عن أهاليهم فتولى عناصر "الانضباط" تجميعهم في زاوية في انتظار تسليمهم الى اهاليهم، وتعطلت الهواتف الخليوية نتيجة كثافة الضغط على شبكة الاتصالات مما اسهم في المزيد من التيه لمجموعات حضرت من مناطق بعيدة وتبعثر اصحابها بين الحشود التي غطت ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح وساحة مبنى "النهار" امتداداً الى منطقة الصيفي والجميزة وبشارة الخوري والباشورة والستاركو ولم يكن الجميع وصلوا بالفعل الى المكان فبقوا في خطوط خلفية بعيدة عن اصوات الهاتفين والخطباء وعدسات الكاميرات. نقاط التفتيش المكثفة للجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي وعناصر الانضباط من المدنيين شكلت اطواقاً محكمة حول المكان، وبذل الامنيون جهداً غير عادي لرصد كل الحقائب وتفتيشها، واسهم تنظيم الوصول الى المكان عبر تثبيت حواجز تحصر الدخول بمنافذ معينة في ضبط العملية الامنية، ولم تسجل صدامات بين الجموع باستثناء بعض التدافع كان يحصل "حبياً". الناس في الساحات غير حزبيين في غالبيتهم. فلم تطلق حناجرهم هتافات مدروسة أو موحدة انما جمعتهم هتافات: "ابو بهاء" و "حرية سيادة استقلال"، ورددوا مع المجموعات الحزبية "يا لحود ضهار ضهار اخرج يلا روح عند بشار" و "يا لحود نزال نزال انزل هيدي الكرسي بدها رجال" ورددوا مع مكبرات الصوت قسم النائب الشهيد جبران تويني مثلما انشدوا النشيد الوطني كلما دعاهم عريف منصة الخطباء الى فعل ذلك. واللافتات التي حُملت عرفت بالامكنة التي اتى منها الناس، وكُتب على احدها "رستم، آصف، جامع، ماهر وبشار الله يمهل ولا يهمل"، وعلى اخرى "لا تحوّلوا بيروت الى مزارع، شبعنا". وحمل كثر لافتات سوداً كتب عليها "الحقيقة"، وارتفعت بين ايدي متظاهرين صور للشهداء باسل فليحان وجورج حاوي وجبران تويني وسمير قصير الى جانب صور كمال جنبلاط والحريري وكتب على لافتة باللغة الانكليزية "بعث دموي"، وعلى اخرى "لن نكون شعباً مأجوراً عند نظام مأجور" و "قاتل الحريري يساوي مجرماً صهيونياً" وعلى لافتة اخرى "من الرئيس رينيه معوض الى الرئيس رفيق الحريري لن توقفوا زحف الربيع" و "يلي خلّف ما مات" وعلى لافتة "رفيق، باسل، سمير، جورج، جبران شبعنا يا لحود". انتظر الناس وصول من كانوا في انتظارهم ولم تشف رؤية شخصيات من قوى 14 آذار غليلهم. لكن حين علا صوت عريف المنصة بوصول رئيس "اللقاء الديموقراطي النيابي" وليد جنبلاط وتمكن بعضهم من لمحه من بعيد علا الصراخ والهتاف بحياته وهو كان شق مع مرافقيه طريقهم بصعوبة الى خيمة الحرية ونهر مرافقيه الخائفين على حياته للابتعاد عنه واصر على الخروج من الخيمة الى الناس والتلويح لهم بوردة حمراء مع ابتسامة ولف عنقه بوشاح يحمل اللونين الاحمر والابيض. وتكرر المشهد مع وصول رئيس الهيئة التنفيذية ل "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع وهو الحضور الاول له الى ساحة الحرية في بيروت منذ خروجه من السجن الى باريس والعودة الى الارز، فتدافعت الشابات والنسوة صارخات "الرب يحميك" وحالت المرافقة المشددة من حوله دون رؤيته. ساد الصمت حين ارتفع من مكبرات الصوت صوت ارملة الرئيس الشهيد نازك رفيق الحريري، توالى بعدها على المنصة ومن خلف الواح زجاجية مصفحة الخطباء على الكلام. وحين اعلن النائب السابق نسيب لحود عدم شرعية التمديد للرئيس لحود علا هتاف الجميع "أي ويلا لحود طلاع برا" فقاطعهم النائب السابق ممازحاً في معرض التأكيد "اميل ما هيك"؟ كانت الجموع تعبر عن تأييدها او اعتراضها على المواقف التي يدلي بها الخطباء، فحين اتت الوزيرة نايلة معوض على ذكر الثمن الذي دفعه لبنان نتيجة الوصاية السورية ارتفعت صرخات الاستهجان لهذه الوصاية، وحين اكدت "اننا لسنا اكثرية عابرة أو وهمية" صفقوا لها كثيراً مثلما فعلوا حين قالت "لا شرعية لرأس حكم لا شرعية له". وحين قال الرئيس امين الجميل "ان الله معكم ومع لبنان والدليل انه انعم علينا بهذا الطقس المشمس اليوم" ضحك الناس وصفقوا، وحين وقفت نايلة جبران تويني خطيبة باللغة العامية رددوا من ورائها بصوت واحد قسم والدها. كانت الساعة اقتربت من الواحدة الا عشر دقائق، طلب عريف المنصة يحيى جابر من الحضور الصمت والتلويح باعلامهم وراح يروي اللحظات الاخيرة التي عاشها الرئيس الحريري قال: "الآن غادر مقهى الاتوال انه يمشي ويصعد الى سيارته، تتهادى السيارة، اخذ الطريق البحرية تابع، حكى مع باسل فليحان ومع "ابو طارق"، لوحوا بالاعلام اكثر انه ذاهب الى قدره، قدره انتم، حريتكم انه يسير، عم يلف، صمت قليلاً وقال: "طلع الرئيس بيحبكم الرئيس استشهد"، تساقطت دموع من عيون كثيرة في هذه اللحظات، دقت اجراس الكنائس في المكان وارتفع صوت مقرئ القرآن في المسجد القريب والآخر البعيد. سكتت الافواه لحظات وارتفعت الحناجر بعدها بشتيمة بحق سورية ثم هتفت "ابو بهاء". قال لهم العريف التفتوا الى مسجد الامين انه سعد رفيق الحريري يتكلم. دارت الرؤوس دورة كاملة، خلف السور الذي حمل صور الرئيس الشهيد وقف رئيس كتلة "تيار المستقبل" خلف زجاج مصفح على درج مسجد الامين يتلو كلمته وخلفه عشرات من مشايخ دار الفتوى. هتفت الناس بحياته ولوحوا له بالاعلام حين خاطبهم ب "يا شعب 14 آذار العظيم"، جملة تذكر الحضور بغياب انصار "التيار الوطني الحر" للمرة الاولى عن ساحة الحرية. كلمة جعجع قوطعت اكثر من مرة لتسجيل لحظات وصفت بالتاريخية. فصعد اليه جنبلاط وسط هتافات الحشود، واذا بسعد الحريري يشق طريقه من مسجد الامين الى المنصة بين الناس الذين حملوه اليها بعدما تعذر صعوده عبر السلم الجانبي لكثرة الحشد. وبقيت العيون شاخصة الى الزعماء الثلاثة متشابكي الايدي على وقع التصفيق والتهليل، وهتف شبان لفوا على جبهاتهم عصبات كتب عليها "فدائيو الوليد" بحياة جنبلاط الذي اثارت كلمته حماسة الحشود التي صفقت طويلاً مؤيدة مواقفه ورددوا معه "بالروح بالدم نفديك يا لبنان". كان مشهد الجموع جاذباً للعديد من الخطباء وبعضهم اطال في الكلام. وسبق الخطباء الى المنصة شاب اخترق الطوق الامني ووقف تحتها وهتف امام عدسات المصورين والصحافيين "تحيا سورية، يحيا بشار" رافعاً قبضته، وحين انقض عليه رجال الامن راح يصرخ "انا لبناني". واكتفت القوى الامنية باخراجه من المكان الذي استعاد لغة جامعة مغايرة.