لم يكن فردريك نيتشه من المفكرين الذين يحبون أن يخلدوا الى الراحة. كان يجد راحته في الكتابة، في التفكير، وبشكل خاص في الاستفزاز. ولعل من المفيد أن نذكّر هنا بأن معظم النصوص التي كتبها نيتشه، ولا سيما خلال المراحل الأخيرة من حياته، كانت نصوصاً استفزازية، يحرص فيها على أن يكتب ما يصدم الآخرين، سواء كان هؤلاء من أصدقائه أم من أعدائه، من الذي يرضى عنهم عادة، أو يعارضهم. ومع هذا، دائماً ما أخذت نصوصه على محمل الجد، ولم ينظر كثر الى ما في كتاباته من تناقض، إلا على ضوء إدراك جدلي، يضع التناقض في موضع مقبول، ولعل موقفه من صديقه السابق، وخصمه اللاحق، ريتشارد فاغنر، يوضح هذا بأفضل ما يكون، فهو بعدما امتدح موسيقى فاغنر طويلاً، وبعدما وصفه في مقدم موسيقيِّ عصره، وكتب عنه صفحات لا تنسى، عاد وعارضه تماماً، مفضلاً عليه جورج بيزيه وهو تفضيل لم يشاركه فيه أحد، على رغم الإجماع من حول"كارمن". ومن هنا فإن من يقرأ، ضمن تسلسل تاريخ كتب نيتشه ونصوصه الأخرى، من حول فاغنر، سيدهش. بل سيدهش أكثر حين يوصي نيتشه في أحد نصوصه الأخيرة بأن من عيوب فاغنر"عداءه للسامية"وحسه"الشعبي الخالص"في أوبراته. ولنلاحظ هنا أن نيتشه، وخصوصاً بدءاً من نهاية عقد الثمانينات من القرن التاسع عشر، صار يتعمد ذكر فاغنر، ومعارضته، حتى في نصوص كانت أصلاً تريد أن تحكي عن أمور أخرى. وفي هذا الإطار نصل الى واحد من أشهر كتب نيتشه"غروب الاصنام"، الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه نوع من الرد الفلسفي على أوبرا فاغنر"غروب الآلهة"... لكنه سرعان ما يتخذ لنفسه أي الكتاب منحى آخر تماماً، ليصبح نوعاً من الموقف النقدي الثقافي العام، والذي يتناول في شكل أساس مفهوم الانحطاط في الثقافة والفكر، وحتى من دون أن يكون في صفحاته متسع للحكي عن فاغنر. تقول سيرة نيتشه ان كتابة"غروب الأصنام"لم تستغرقه أكثر من أسبوع واحد. وهو كتبه في منطقة سيلس ماريا الاستجمامية، حيث كان يمضي إجازة في صيف عام 1888 بين 26 آب/ اغسطس، و3 أيلول/ سبتمبر. في ذلك الحين، وكما تقول سيرة الرجل أيضاً، كانت شهرته وشهرة أعماله بلغت أوجها، لا سيما بعد أن أصدر"جينيالوجيا الاخلاق"وكان يستعد لإصدار"عدو المسيح". في ذلك الحين كان ثمة طبعة لأعماله على وشك الصدور، وكان الناشر يريد منه أن يكتب نوعاً من المدخل لتلك الطبعة. ومن هنا ولد هذا النص الذي أصر نيتشه على أن يضيف اليه عنواناً ثانوياً هو"التفلسف مع استخدام مطرقة". والحقيقة أن وضع هذا العنوان الثانوي للكتاب، لم يكن صدفة، وما قراءة فصول الكتاب، ومنذ البداية، سوى برهان على هذا، إذ منذ المقدمة أوضح نيتشه ان غايته من هذا الكتاب إنما هي توجيه نقد حاد الى الثقافة الألمانية المعاصرة، على اعتبار انها ثقافة لم تعد تحتوي على أي قدر من التعقيد التركيبي. في اختصار صارت ثقافة مبتذلة متسرعة. ولكن، مهلاً، إذا كانت الثقافة الألمانية المعاصرة بهذا السوء، يقول نيتشه، فإن ما يقابلها في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا ليس أفضل.. ومن هنا السهام السامة التي يطلقها الفيلسوف الألماني على بعض أبرز ممثلي تلك الثقافات. إذاً، فمن هم المبدعون الذين يعجبونه؟ ليسوا كثراً... هم قلة على مر التاريخ يرى نيتشه انهم النقيض الخالص للمبدعين الآخرين الذين يسمهم بالانحطاط. ان الذين يصفق لهم نيتشه هم على شاكلة قيصر، ونابوليون وغوته ودوستويفسكي، ناهيك بتوسيدوس ثم، بخاصة، السوفسطائيين، الذين يعتبرهم من أكثر المفكرين قوة ومن أحسنهم صحة. ولكن لماذا؟ ببساطة لأن هؤلاء قادرون على نقل القيم من جيل الى جيل، وهذا الانتقال للقيم هو الذي كان يهم نيتشه. ومن هنا، إذ نراه يركز على بعض الكبار المعاصرين له، أو السابقين عليه بفترة، يعود في جذور المسألة الثقافية، على الأقل الى الفكر الروماني الذي نجده، وعلى عكس كثر من المفكرين والفلاسفة، يفضله على الفكر الإغريقي السابق عليه، ولا سيما على فكر سقراط الذي يفرد له في هذا الكتاب الفصل الثاني بأكمله، جاعلاً عنوانه"معضلة سقراط". وفي هذا الفصل يرى نيتشه ان الفلاسفة من سقراط والذين بعده كانوا جميعاً فلاسفة انحطاط"يستخدمون الديالكتيك ? بصيغة الجمع في نص نيتشه ? كوسيلة"للحفاظ على الذات، في الوقت الذي بزغت فيه سلطة التقاليد. وفي السياق نفسه، ولكن في فصل آخر عنوانه"الأخطاء الأربعة الكبرى"، يتعدى نيتشه لفكر آخر، حيث يقول إن"الناس، ولا سيما المسيحيون منهم، عادة ما يخلطون بين السبب والنتيجة، مسقطين اناهم أو ذاتيتهم على أمور أخرى، خالقين بهذا مفهوم الكينونة الوهمي". ولا يفوت نيتشه هنا أن يعود مرة أخرى الى مفهوم الثواب والعقاب والإرادة الحرة، حيث يعتبر مفهوم"الارادة الحرة"أمراً وهمياً. واستطراداً يقول نيتشه هنا إن ما يسميه الناس"شراً"إنما هو في الحقيقة"عدم القدرة على التحرك رداً لدافع ما". وفي ضوء هذا الأمر يصبح مفهوم الأخلاق نفسه مجرد وسيلة للرقابة والسيطرة قائلاً إن"نظرية الإرادة لم تُخترع في شكل أساس إلا من أجل جعل العقاب ممكناً، أي تذنيب الآخرين". وللتوصل الى هذه النتائج قسم نيتشه صفحات كتابه الى أحد عشر فصلاً ومقدمة. ولقد خصَّ كل فصل من هذه الفصول بموضوع محدد، أو بجملة مواضيع في بعض الأحيان، فهو بعد أن حدد طريقة توزيع سهامه السامة، وتناول ما سماه معضلة سقراط، تطرق الى مسألة"العقل في الفلسفة"ثم شرح كيف أن العالم الحقيقي تحول في نهاية الأمر ليصبح اسطورة، ثم تناول مسألة"الأخلاق بصفتها مناهضة للطبيعة"، قبل أن يفصل لنا ما يعتبره الأخطاء الأربعة الكبرى في تاريخ الفكر، ثم يصل الى من سماهم"محسّني الشرط الإنساني"منطلقاً من هؤلاء ليحدثنا عما يفتقر اليه الفكر الألماني في هذا المجال.. مستثنياً، نفسه طبعاً، معتبراً، في فصل لاحق انه يدين الى القدماء بالكثير. أما الفصل الأخير فقد عنونه وبشكل ذي دلالة:"المطرقة تتكلم". وواضح هنا، من البداية وحتى النهاية، أن نيتشه، على رغم ثنائه على عدد لا بأس به من المفكرين والمبدعين، إنما تحدث عما يرفضه، على عادته، أكثر مما تحدث عما يعجبه. ولم يكن ثمة أي تجديد لديه في هذا المجال هنا. ما يجعل هذا الكتاب يبدو، والى حد ما، أشبه بخلاصته لمجمل الأفكار التي كان نيتشه قد عبر عنها في العدد الأكبر من كتبه السابقة. حيث نجده هنا، مرة أخرى، يرفض السقراطية، وبالتالي الأفلاطونية بما في ذلك كل التجديدات"العقلانية"التي جاء بها المفكر الإغريقي، كما يرفض المسيحية وكل نزعة تنادي بالمساواة بين البشر وصولاً الى رفضه كل أنواع الديموقراطية والاشتراكية. ومهما يكن من أمر، فإننا حتى وان كنا نعرف أن نيتشه أنجز هذا الكتاب قبل شهور من بدء ظهور علامات الجنون لديه 1889 من الصعب علينا أن نرى هذه العلامات ماثلة في أي من فصول"غروب الأصنام"، خصوصاً أن نيتشه أصدر بين إنجاز هذا الكتاب، وبين دخوله مصح الأمراض العقلية، ثلاثة من كتبه الأكثر شهرة وشعبية وهي"عدو المسيح"وپ"هوذا الإنسان"وأخيراً"نيتشه ضد فاغنر". لم يعش نيتشه طويلاً، فهو حين، رحل عن عالمنا عام 1900، كان بالكاد أتم العام السادس والخمسين من عمر ملأته حياة قلقة مضطربة، عرفت تقلبات كثيرة قبل أن تنتهي به الى الجنون. غير أن العمر أتاح له، مع هذا، أن يضع عدداً لا بأس به من المؤلفات التي قد لا تكون فلسفة خالصة ولا أدباً خالصاً، لكنها تنتمي الى ما هو وسط بين الاثنين. أما أهمية نيتشه فهي في تأثيره على كثر من كتّاب وفلاسفة القرن العشرين، بقدر ما كانت في كتبه التي تناول فيها عدداً كبيراً من المواضيع الفكرية والفنية والفلسفية والفيلولوجية. [email protected] نشر في العدد: 16752 ت.م: 14-02-2009 ص: 28 ط: الرياض