جروح كثيرة عمّقها مطلع السنة الجديدة في جسد الحياة الاجتماعية والثقافية داخل قطاع غزة.. المكان الذي لم يشفَ، بعد، من كلّ أسباب العذاب الخارجي والداخلي. جروحٌ يتواصل نزيفها.. فالحرب اندلعت في رأس السنة، وسيحتاج المجتمع الغزاويّ وقتاً، ليس بالقليل، للشفاء منها. وإذا كانت كرامة العيش في هذا المكان مهدورةً كدمِ الأخوّة، فكبرياء الثقافة هي الأخرى جرحتها حروف السيف والسياسة المسننة، التي شوّهت ملامح الحكاية والهوية الفلسطينيتين. وليس أدلّ على الخراب الثقافي، وخراب"المثقف"الفلسطيني من داخله، سوى أقلام الكتاب أنفسهم الذين انحدروا الى مستويات من الانحطاط والضعف الفكري انزلاقاً في معمعان التحزّب، ومجاراةً لضعف السياسة الفلسطينية المنقسمة على نفسها وهي تواجه الآخر بمختلف مسمياته. حتى لم يعدْ يناسبُ هذه المرحلة رفع شعار:"المثقفون هم الذين يُحافظون على وحدة الشعب ويَصونونها"! غزة المزدحمة بالناس والأيدلولوجيا، نما ونضج فيها شعرٌ طارد للأيديولوجيا ونثرٌ وفِيّ لتفاصيل الحياة بأبعادها الإنسانية! وهذا شكل من أشكال المقاومة، مقاومة يقودها كتابٌ مبدعون تعصف بهم أزمة العيش. وعلى رغم ذلك يقاومون كلّ ما هو رديء ومشوّه. على رغم انعدام مناخات الاحتفاء بهم وإقصاء بعض المتنفّذين في وزارة الثقافة في رام الله أو في غزة لهم. أما على مستوى تعطيل أو شلّ الحركة الثقافية في غزة، فاتصف عام 2008 بأنه الأسوأ في تاريخ المراكز والبيوت الثقافية المحسوبة على المؤسسات الرسمية، وتلك العاملة في إطار شبكة المنظمات الأهلية، إذ أقدمت داخليّة"الحكومة المقالة"على إغلاق معظمها ومصادرة تجهيزاتها، وتركها لعبث أولاد الحارات، في حجة أنها أماكن يُضخّ عبرها المال"المشبوه"من"رام الله"، ومن جهات أخرى، إلى الخصوم في حركة"فتح". عدا عن تعرّض شعراء وكتاب للاعتقال والمساءلات والتعذيب النفسي، ما دفع بعضهم للهروب من غزة إلى رام الله، ومنها الى عواصم عربية متفرّقة، مثلما فعل الشاعر أحمد دحبور الموجود حالياً في مدينة"حمص"السورية وكذلك صاحب ديوان"على قيد الوطن"الشاعر أحمد يعقوب الذي اختار أبو ظبي مكاناً للهدنة! وعن سوق الكتاب وحركة المنشورات الثقافية والأدبية في غزة، تراجع دورها، ثمة مكتبات أقفلت أبوابها جرّاء سقوط القطاع بكامله في ظلام المرحلة ومأزق العيش. ولا تزال"حكومة غزة"تحظر دخول الصحف الفلسطينية الصادرة في"رام الله"، مثلما تحظر السلطة في رام الله صحيفة"فلسطين"المحسوبة على"حماس". ولم يسجّل فهرس 2008 غير عناوين لإصدارات قليلة تمت طباعتها ونشرها في القطاع،"ملتقى الإبداع الأدبي"في مركز ثقافة الطفل التابع ل"جمعية الثقافة والفكر الحرّ"في مدينة خان يونس جنوب القطاع لكون هذه الجمعية تصر على الاستمرار في العمل الثقافي على رغم حراجة الوضع والكآبة الوطنية، فضلاً عن قيام مركز"أوغاريت"الثقافي في رام الله بطباعة بضعة أعمال أدبية لشعراء وكتاب من غزة، منها رواية"سر الرائحة"للكاتب هاني السالمي، وديوان"آثام بيضاء"للشاعر جبر شعث، ومجموعة قصصية"حياة في متر مربع"للقاصة الشابة نهيل مهنا. وصدور ديوان"الفكرة والدخان"للشاعر معين شلولة لدى دار"شرقيات"في القاهرة، وإدخال بضع نسخ منه عبر أحد أنفاق التهريب بين مصر ورفح الفلسطينية، بمساعدة بعض أصدقاء الشاعر في مصر. وصدر أيضاً ديوان"ليلة القصائد الصغيرة"للشاعر باسم النبريص لدى وزارة الثقافة في رام الله. وعلى قلتها، لم تصل هذه الإصدارات، الى أصحابها القاطنين في قطاع غزة، ولا تزال الطرود البريدية مكدّسة على بوابة"إيرز"العسكرية. ولتعويض بعض الشلل لوحظ إطلاق عشرات المواقع والمدونات الألكترونية. لكن الإنترنت بصفتها واقعاً افتراضيّاً مشابهاً إن لم يكن سطحياً، تعكس واقع الصراع الإيديولوجي المقوّى بالرطانة الثقافية، وتعبر عن أزمات القيم في مجتمع مسيّج بآثام الاحتلال، يعيش حصاره اليوميّ، ويجلد ذاته بأيادي الأخوّة والرموز الثقافية الحيّة ويستهدف الميراث الثقافي لمنظمة التحرير الفلسطينية بمقالاتٍ وخطب كثيرة! إنه لعامٌ صعب، وبمثابة خلفية لعام 2009 الذي افتتحه الاحتلال بحربه الوحشية على قطاع غزة، وبالضبط، في لحظة تسلّم،"القدس"من شقيقتها"دمشق"تاجَ"عاصمة الثقافة العربية"! نشر في العدد: 16739 ت.م: 01-02-2009 ص: 32 ط: الرياض