الأزمة المالية العالمية وضعت الرئيس أوباما وجهاً لوجه مع تدابير مالية داخلية لدرء انعكاسات الأزمة على الولاياتالمتحدة وعلى المكلفين الأميركيين. من هنا يفهم سفر الرئيس باراك أوباما إلى الخارج وإطلاق عناوين عريضة لسياسته الخارجية. ولا شك في أن خطابيه في القاهرة بتاريخ 4 حزيران/ يونيو 2009 وفي موسكو بتاريخ 2 تموز/ يوليو 2009 يعتبران رسالتين: الأولى موجهه إلى العالم الإسلامي والثانية إلى الاتحاد الروسي وأوروبا والعالم، وهذان الخطابان يرسمان إطاراً عاماً للتعامل مع الأزمات الدولية الممتدة من العراقوأفغانستان إلى جورجيا وإلى الحرب على الإرهاب وإلى الملف النووي الإيراني وإلى الصراع العربي الإسرائيلي. ولكن من المهم الإشارة إلى تصريحات أوباما خلال حملته الرئاسية والتي لخصت ورسمت سياسته الخارجية المستقبلية. وذلك من أجل المقارنة بين تصريحات الأمس، فترة حملة الرئاسة الداخلية وفترة الجولات الرئاسية الخارجية بغية رسم خط بياني بين الفترتين لإدراك وفهم حقيقة السياسة الأوبامية الجديدة، والخارجية منها على وجه التحديد. في كانون الأول ديسمبر 2005، لخص أوباما سياسته الخارجية في محاضرة له بمجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية، والتي أعلن أنه سينفذها في حال وصوله للبيت الأبيض، حيث اعترف بأن الحرب على العراق أضرت بنفود بلاده وسمعتها. ووضع أوباما خمس طرق سيقود بها الولاياتالمتحدة لاستعادة مكانتها. أولها: وضع ما سماها نهاية مسؤولة لحرب العراق التي اعتبرها تمثل بداية لعودة التيار الإنعزالي مرة أخرى إلى السياسة الخارجية الأميركية، وتشجيعه الذي ينشط وقت الإخفاقات الأميركية. وهنا طالب أوباما بخمسة مطالب أساسية في ما يخص القضية العراقية وتتمثل في: خفض عدد القوات الأميركية العاملة في العراق. وضع جدول زمني للانسحاب المرحلي من العراق. أن تحقق الحكومة العراقية تقدماً في العملية السياسية. تحسين جهود إعادة الإعمار لتوفير الخدمات الأساسية للعراقيين. أن يكون لدول الجوار دور في استقرار وأمن العراق ولا سيما الدول العربية. أما الطريقة الثانية، فهي بناء ما سماها"قوة القرن الحادي والعشرين العسكرية الفعلية"داعياً خلالها لزيادة فعالية القوات الأميركية على الأرض وعدم الاكتفاء بالتطور التكنولوجي. والطريقة الثالثة، هي قيادة الجهود العالمية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل حيث لا يزال نحو 50 طناً من اليورانيوم المخصب، بعضها غير مؤمن، في منشآت نووية مدنية في أكثر من 40 دولة. كما طالب بمنع دول أخرى من الانضمام للنادي النووي، والطريقة الرابعة، تعنى بإعادة بناء التحالفات، والشراكات الضرورية لمواجهة التحديات والتهديدات المشتركة، في مقدمها إصلاح المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي. أما الطريقة الخامسة، فهي الاستثمار في إنسانيتنا المشتركة وتتجلى في زيادة المساعدات الخارجية الأميركية السنوية إلى 50 بليون دولار. في ما يتعلق بدور الولاياتالمتحدة بعملية السلام في منطقة الشرق الأوسط ولا سيما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يرى أوباما أن الحرب الأميركية في العراق التي رفضها منذ بداياتها، قوضت من فاعلية الدور الأميركي في عملية السلام. ولكي تستعيد واشنطن دورها عالمياً في منطقة الشرق الأوسط، يرى باراك أنه يتوجب على واشنطن التخلص من العبء العراقي الذي يثقل كاهلها، ويرى أن الالتزام الأميركي بعملية السلام لا بد من أن ينطلق من الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، كما يرى أن التحديات المحدقة بإسرائيل، تبدأ من التهديد الإيراني المحتمل المتمثل بتصريحات رئيسها محمود أحمدي نجاد بمحو إسرائيل من على الخريطة، وإنكار المحرقة اليهودية التي يراها أوباما حادثة وقعت بالفعل، وحصدت ما يقرب من ستة ملايين يهودي. ويرى أن تلك التحديات والتهديدات الإيرانية من الصعوبة بمكان على إسرائيل التعامل معها بمفردها، وهذا الأمر الذي يتطلب التعاون بين البلدين وزيادة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، والاستمرار في المشاريع الأمنية والعسكرية المتعلقة ببرامج الدفاع وتطوير الصواريخ، وتعزيز التفوق الإسرائيلي النوعي بمنطقة الشرق الأوسط، مما سيجعلها قادرة على مواجهة أي تهديد لأمنها الداخلي حماس والجهاد، أو الخارجي إيران وسورية. ومن جهة أخرى اعتبر أوباما أن مخاصمة كل من سورية وإيران وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية، كنوع من العقاب الجماعي، أمر يثير السخرية، وقال أنه مستعد إذا فاز برئاسة الولاياتالمتحدة أن يلتقي في العام الأول من ولايته زعماء تلك الدول. كما استبعد باراك أوباما استخدام الأسلحة النووية في ملاحقة أهداف تنظيم القاعدة أو حركة طالبان في أفغانستان أو باكستان. ولا شك في أن باراك أوباما المنتقد لسياسة سلفه جورج بوش وإدارة المحافظين الجدد، أراد من خطابيه في القاهرةوموسكو تهدئة الخواطر وإرساء قواعد الثقة بين كل من الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي، وبين واشنطنوموسكو، وإطلاق مبادرات دولية لتسوية الأزمات العالقة والمؤجلة منذ عقود وسنوات وهي أزمة الصراع العربي الإسرائيلي، وأزمة الملف النووي في إيران، ناهيك عن الأزمة الناشئة بين جورجياوروسيا. وكلنا يعلم بأن الإدارة الأميركية في عهد جورج بوش استغلت أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، لتصوير"الإسلام"بأنه العدو الجديد الذي حل محل السوفيات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد زاد الإنفاق العسكري الأميركي عام 2001 إلى ضعفي انفاق روسيا والصين وكل أوروبا مجتمعة، فكيف تبرر الإدارة الأميركية ذلك أمام المكلف الأميركي. وقد جاء التبرير، أن العدو هو الإسلام، ولماذا الإسلام، لأن هناك ادعاءً بأن ثمة صراعاً محتماً بين الحضارات. من هنا ركّز أوباما في خطابه الذي ألقاه في القاهرة على أنه لا تعارض بين الإسلام وأميركا، وهنا تأتي أهمية الحديث عن دور الإسلام في الحضارة الأوروبية والغربية في شكل عام. وأعاد الرئيس الأميركي التوتر والصدام وعدم الاستقرار بين المسلمين وأميركا والغرب إلى عوامل عدة وهي الحقبة الاستعمارية والحرب الباردة، ومبدأ كارتر الذي صنّف المسلمين بين عرب وغير عرب وإلى العولمة التي وصفها بأنها معادية للتقاليد الإسلامية. كما انتقد باراك أوباما سياسة سلفه وبخاصة التي كانت موجهة إلى شعوب المنطقة العربية والتي كانت تتلخص بمحاولة الولاياتالمتحدة التغلب على البنية الثقافية العربية التي ترى فيها إدارة بوش خطراً داهماً على أميركا وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول، وبأن المنطقة العربية هي أكثر المناطق تهديداً لأمنها القومي، ولذلك لا بد من تغيير المحتوى الفكري لشعوب هذه المنطقة من أجل تغيير أحوالها لاحقاً. من هنا يفهم إطلاق أميركا مشروع الشرق الأوسط الكبير والذي رأته إدارة بوش غطاءً ومبرراً للانخراط أكثر في شؤون المنطقة وذلك عبر التصاق الحكومات العربية أكثر بأميركا من أجل القضاء على قوى التطرف والعنف في المنطقة، فضلاً عن اعتقاد واشنطن بأن فرض الديموقراطية في المنطقة قد يحسّن من صورة الولاياتالمتحدة في نفوس شعوب المنطقة ويغفر لها خطيئة احتلال العراق ويمحو الكثير من خطيئة التحيز الواضح لإسرائيل. لذلك وانطلاقاً مما تقدم، انتقد أوباما سياسة سلفه بوش حول طريقته في نشر قيم الديموقراطية والمساواة وحرية الإنسان وبناء المجتمع المدني والمؤسسات السياسية، من خلال فرض الضغوط والسياسات الخارجية الأميركية، وأكد أوباما بأنه لا يتبنى ولا يفرض مساراً محدداً للتنمية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، كما أنه لا يمكن فرض نظم الحكم على الشعوب، بل يجب ترك الشعوب لإرادتها الحرة. وهذه مداخل تعكس احترام الخصوصية الثقافية للشعوب الأخرى، وأن التعامل مع الديموقراطية لا يعني هدم قيم الشعوب وخصائصها. كما انتقد أوباما النظريات الغربية التي سادت مناهج التنمية والتي قامت على الصراع بين التقليدية والحداثة، واحتقرت البنى الطبيعية والقيم الأصيلة ووصفتها بأنها مظاهر للتخلف. ولذلك تعرضت المجتمعات في العالم الثالث لاستراتيجيات وسياسات تهدف إلى اقتلاعها من جذورها تحت مسميات التنوير والحداثة. كما دعا أوباما في موسكو إلى التخلي عن المرتكزات التي قامت عليها رؤية المحافظين الجدد أيام بوش وبخاصة في ما يتعلق بالمناداة بأن تؤدي أميركا دوراً قيادياً على الساحة الدولية، كقوة عظمى وحيدة، والتركيز على السياسات العسكرية والأمنية كأساليب أساسية لتنفيذ الرؤى والأهداف الأميركية للسيطرة على العالم، واعتبار غزو العراق خطوة أولى على الطريق الطويل، وذلك وفقاً لما جاء في الكتاب الأبيض الذي صدر عام 2002، في واشنطن، وكان من أهم موقعي إعلان مبادئه الأساسية ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، جيب بوش، اليوت ابرامز، فرنسيس فوكوياما، لويس ليي، دان كويل وبول وولفوفتيز. وبالمقابل دعا أوباما إلى التعامل مع الأزمات الدولية، بدل الدخول في حروب وهي عقيدة بوش المتمثلة بأن تزايد النفقات العسكرية ينعكس ايجاباً على النشاط الاقتصادي. كما أن الرئيس أوباما سخر من مصطلح الأحادية القطبية والقوة العظمى الوحيدة في العالم والتي أحاطت بأميركا منذ حرب الخليج عام 1990 عندما قال: ليس هناك دولة واحدة قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بمفردها، ولا هي قادرة على إملاء شروطها على العالم، إن هذا أمر تفهمه الولاياتالمتحدة الآن. ولهذا فإن أميركا تسعى إلى نظام دولي يسمح للدول بالسعي لتحقيق مصالحها بطريقة سلمية. وبخصوص الأزمة الجورجية، ركّز الرئيس الأميركي على حق الدول ومن بينها أوكرانياوجورجيا في أن تكون لها سيادة على أراضيها وحرية في سياستها الخارجية، وفي أن تقرر بغالبية مواطنيها سياسة الانضمام إلى حلف الناتو، ولكن يفهم من ذلك بأن الرئيس الأميركي وضع الأزمة الجورجية الروسية والتي هي كانت بالأصل أميركية روسية، خلفه، وذلك لسببين، أولاً عندما اشترط موافقة جميع المواطنين الجورجيين للانضمام إلى حلف الناتو وهذا شرط مطلوب في ميثاق الناتو، وهذا يعني ضمناً أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، باعتبار أن الولاياتالمتحدة وأوروبا لا تعترفان باستقلال كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، بل تعتبرانهما جزءاً لا يتجزأ من جورجيا، ومن هنا فإن المعارضة الموجودة تعتبرها حاجزاً للانضمام إلى الناتو. وثانياً عندما دعا الرئيس أوباما حلف الناتو إلى التعاون مع روسيا وليس إلى الصدام والمواجهة، وهذا معناه صرف النظر عن فكرة انضمام كل من أوكرانياوجورجيا إلى الحلف، وإغلاق ملف الدرع الصاروخي في بولونيا، وهذه المواضيع كانت من الأسباب التي أساءت إلى العلاقات الروسية الأميركية زمن الرئيس جورج بوش وساهمت في إذكاء نار الأزمة في القوقاز. كما أن التهدئة الأميركية لروسيا من منظومة الدرع الصاروخية المزمع نصبها في أوروبا، أتت من أوباما في موسكو من خلال القول إن هذه المنظومة ليست موجهة ضد روسيا بل للوقاية من خطر شن هجوم محتمل من إيران، كما أردف قائلاً بأن حكومته ستقوم بإجراء مراجعة لهذه الخطط من أجل تعزيز أمن أميركا وأوروبا والعالم، ففتح بذلك باب التسوية على مصراعيه مع موسكو، وبخصوص أزمة الملف النووي الإيراني دعا أوباما إلى تشكيل لجنة سداسية للتعامل مع إيران كما حدث مع كوريا الشمالية، وهذا يعني ضمن متغيرات وأهداف أخرى وجود سياسة أميركية جديدة لعزل إسرائيل عن القضايا الأخرى ? وبخاصة الأزمة الإيرانية، على رغم المظاهر العسكرية الإسرائيلية اللافتة للنظر البحرية والجوية ? والوصول مع روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والعالم العربي وإيران إلى حلول للأزمة الإيرانية بعيداً عن التهويلات، وعن قرارات مجلس الأمن، والضغوط الاقتصادية والسياسية. أما بخصوص الوضع في أفغانستان، فإن سياسة أوباما مستمرة بالسعي للقضاء على"القاعدة"إن كانت في أفغانستان أو باكستان، ولذلك طلب من روسيا بإعلان الشراكة لمواجهة الإرهاب، من أجل إشاعة الأمن في آسيا الوسطى، مؤكداً رفضه لإقامة قواعد عسكرية أميركية دائمة في باكستان وأفغانستان. وبتاريخ 29/11/2009 صرّح روبرت غيتس الناطق باسم الرئاسة الأميركية بأن أوباما قد أطلع حلفاءه في بريطانيا وفرنسا وروسيا وقادته العسكريين الكبار وقائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال ستانلي ماكريستال عن نتائج مراجعة الاستراتيجية العسكرية في أفغانستان والتي ستقضي بإرسال 30 ألف جندي إضافي إلى أفغانستان وذلك لحسم الحرب ووضع جدول زمني للانسحاب من أفغانستان. وقد ذكرت صحيفة"نيويورك تايمز"في 30/11/2009 بأن قرار أوباما الاستراتيجي هذا، لا يعتبر الأهم في ولايته فحسب بل كذلك الأصعب. أما بخصوص العراق وهذا أيضاً ينطبق على أفغانستان، فإن ما طرحه أوباما في هذا الشأن، يتمثل في إجراء مراجعة شاملة للتواجد الأميركي في الخارج بخاصة ما يتعلق بنشر القوات الأميركية وحدود استخدام القوة في الصراعات الدولية. مع تعهد بانسحاب أميركي من العراق وفق جدول زمني وأن يترك العراق لأهله. أما في خصوص أزمة الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، فقد أعلن أوباما عن رؤيته لإقامة الدولتين المستقلتين الدولة الفلسطينية والدولة الإسرائيلية جنباً إلى جنب، على أن تكون القدس مدينة مفتوحة لجميع الأديان، ووقف الاستيطان، واستعداده للسير قدماً في التسوية السلمية لحل الصراع العربي الإسرائيلي. إلا أن ملف الاستيطان هذا كان سبباً لرفض الرئيس الفلسطيني إعادة ترشيح نفسه لولاية جديدة على رغم تأكيدات إسرائيلية بوقف بناء المستوطنات لمدة موقتة وهذا ما رفضه أبو مازن واعتبر بناء المستوطنات يضرّ بمسيرة السلام وبناء الثقة بين الجانبين. وفي خصوص التحدي النووي في القرن الواحد والعشرين دعا أوباما روسيا كما أميركا إلى الالتزام بوقف الانتشار النووي غامزاً من قناة المساعدة الروسية النووية لإيران في بوشهر، والسعي لأن يكون العالم في نهاية المطاف خالياً من الأسلحة النووية. إن الواقعية السياسية التي تحلى بها الرئيس أوباما في خطابيه، جعلته يقر ويعترف بأن عالم الأمس هو غير عالم اليوم، ففي زمن الإمبراطوريات كانت تعامل دولاً ذات سيادة كما لو كانت حجارة شطرنج، أما في عام 2009 فليس هناك قوة كبرى تستعرض عضلاتها لتهيمن على دول أخرى. وقال اوباما أخيراً، انتهى الزمن الذي يغير فيه روزفلت وتشرشل وستالين العالم في اجتماع واحد. لذلك، نقول أن سياسة أوباما في التعامل مع الأزمات الدولية والتحديات قائمة بالأساس على فكرة التعاون والديبلوماسية والتحاور والتي تستدعي شراكة عالمية، بدلاً من فكرة الحرب التي تستدعي الصدام والمواجهة والتي كانت سياسة سلفه جورج بوش الابن. * كاتب لبناني