السماء تغطيها غيوم بلون الدخان، داكنة كثيفة، سحابة سوداء لا تتحرك، أفتح النافذة عن آخرها فلا يأتي ضوء ولا هواء، فقط صهد أغبر يحرق العين والأنف، أكاد أختنق فأغلق النافذة، أضع نفسي تحت الدش، لا ماء يأتي، رذاذ قليل شحيح بخيل يزيدني عطشاً وغضباً، ألعن المكان والزمان، وشبرا، الحي الفقير العتيق منذ عصور السخرة في مصانع النسيج، راح النسيج والقطن الناعم الجميل وراء البحار والمحيط، لم تبق إلا الأبخرة السامة المتصاعدة من المداخن، البيوت علب متراكمة متلاصقة من الإسمنت، عمارات من الخرسانة المسلحة، كتلة صماء ممدودة بامتداد البصر، لا شجرة خضراء واحدة تطل من هذا الخضم، الحجر والطوب المحروق، وأصوات زاعقة من الحلوق. أبكي بلا دموع على نفسي وسكان شبرا، لو اشتغلت بالتجارة أو ما يسمى اليوم"الأعمال"لأصبحت لي فيللا في حي نظيف راق تظلله الأشجار، هذا جناه أبي عليّ، كان أبي يحتقر الثراء، يقول: التاجر حذاء مملوء بالفلوس، الغني غني النفس يا ابنتي. لحظات الشك في فلسفة أبي، تصبح الدنيا سوداء، التراب... الغبار يغطي النوافذ والكراسي ورفوف المكتبة والكتب والأوراق، بقايا خبز ناشف وقطعة جبن مجمدة، لم آكل منذ الأمس، راحت شهيتي للحياة، لم يعد قلبي يخفق للحب، هل أضعت عمري من دون جدوى بسبب فلسفة أبي؟ يرن السؤال داخل رأسي المصمت، الفراغ داخل رأسي، الفزع، ترتطم عظامي بالأرض، أسقط من الدور السادس والعشرين، تتناثر أجزاء مخي فوق الإسفلت، تدوس عليها عجلات السيارات المارقة بسرعة إلى حياة ليست حياتي، وفرح ليس فرحي، يصنع ألمي ودمي وخلايا مخي أفراح الآخرين، يقهقه زوجي بصوت كئيب، شمعة تحترق لتضيء للآخرين؟ احترقي وحدك، أنا أريد أن أعيش، أريد فرخة مشوية وكأساً، وجنساً لذيذاً، وفيلماً ممتعاً، وموسيقى بيتهوفين. تمر السحابة بطيئة بطيئة، أستعيد الوعي ومعه البهجة، ينفذ شعاع ضوء من السواد، أشرب كوب شاي أخضر مع قطعة سكر، يسري السكر في الدم طارداً الحزن من القلب، يذوب المادي في اللامادي، العضوي في غير العضوي، تتغير كيمياء المخ، أبتسم لنفسي في المرآة، أتذكر حلم الحب، وأنسى مؤسسة الزواج المؤسفة. كل صباح تمر به السحابة تمر بي لحظة الشك في فلسفة أبي، والحزن على الحب الضائع من أجل الزواج، والمال الضائع من أجل الحب، أتصفح جرائد الأمس، أترك جرائد اليوم لليوم الآخر، حتى يهدأ الزعيق ويذوب حبر المانشيتات، رائحة الحبر فوق ورق الجرائد لا تطاق، تلتصق الرائحة بأطراف أصابعي مع الحروف الملطخة بالألوان، كان أبي يقول"كلام جرايد يا بنتي... كلام فارغ"، جدتي الفلاحة كانت تقول"بولوتيكا"كلمة علمية صحيحة تعني"السياسة"باللغة الأجنبية، كيف عرفتها جدتي التي لم تقرأ الحروف، لا عربية ولا غيرها؟ لم تكن جدتي الوحيدة الواعية بالبيلوتيكا، بل أهل القرية كلهم، يضحكون على السياسة والجرائد ويقولون: بوليتيكا، كلها بوليتيكا. في صحف الأمس أو أمس آخر، قرأت عن سقوط"الحصانة"عن رئيس الحكومة الإيطالية سيلفيو بيرلوسكوني، بسبب نشاطه الجنسي غير الأخلاقي مع فتيات صغيرات، وقرأت في الصفحة ذاتها عن القبض على المخرج السينمائي الشهير رومان بولانسكي بسبب نشاطه الجنسي غير الأخلاقي مع فتاة صغيرة، وكم من قصص من هذا النوع نقرأها كل يوم، عن الرجال الكبار الرؤساء والأدباء والنبلاء والفنانين العجائز، ونشاطهم الجنسي غير الأخلاقي مع البنات أو العذراوات. أهي سمة القرن الواحد والعشرين؟ أم هي أخلاق الرجال منذ نشوء النظام العبودي؟ هل هي مشكلة هورمون الذكورة؟ أم مشكلة نظام سياسي قائم على الازدواجية والتناقض والتفرقة بين البشر على أساس الجنس والطبقة والدين واللون وغيرها؟ كيف تتشكل أخلاق الرجال والنساء في أي مجتمع أو دولة؟ إذا أباح القانون التعددية الجنسية للرجل، فهل يمكنه الاكتفاء بزوجة واحدة؟ وإذا فرض القانون"الأحادية"على المرأة، فهل يمكنها أن تكون"متعددة"مثل زوجها؟ وإذا منح القانون"الحصانة"للحاكم صاحب السلطة وليس للمحكوم فاقد السلطة، فهل يمكن أن تكون في الدولة مقاييس عادلة سياسياً وأخلاقياً؟ قبل نشوء النظام العبودي كان الرجل والمرأة أمام القانون سواء، في الحقوق والواجبات، والمناصب السياسية والدينية، في الحضارة المصرية القديمة كانت المرأة تحتل أعلى المناصب مثل الرجل، كانت ملكة امرأة تحكم مثل حتشبسوت، وكان الآلهة إناثاً وذكوراً، إزيس وأوزوريس، إلهة السماء"نوت"وزوجها"جيب"إله الأرض، كان للمرأة احترام كامل، اسم الأم كان يحظى بالشرف مثل اسم الأب، يحمل الأطفال اسم الأم من دون أن يوصموا بالعار أو لقب أطفال"غير شرعيين". ما الذي حدث في التاريخ حتى تتدهور قيمة"الأم"فيصبح اسمها عاراً، يسلب الأطفال الشرف والكرامة وحقوقهم الإنسانية؟ ما الذي حدث في التاريخ لتصبح الازدواجية هي معيار القيم والأخلاق؟ كيف أصبح الرجل يفخر بغزواته في الفراش مع النساء، كيف أصبحت الرجولة هي الفحولة الجنسية؟ وتم تطبيق قانون العفة والمسؤولية الأخلاقية فقط على النساء؟ كيف خرجت تظاهرات من الرجال في إيطاليا تساند رئيس حكومتهم برلسكوني وترفض رفع الحصانة عنه بسبب فساده الأخلاقي؟ وكيف خرجت التظاهرات في فرنسا وسويسرا وبولندا ترفض محاكمة المخرج بولانسكي لاغتصابه طفلة في الثالثة عشرة من عمرها؟ يبرر الفساد الأخلاقي الذكوري أو الازدواجية الأخلاقية بعض المستفيدين من هذا الفساد، يحاولون إرجاع الازدواجية إلى أسباب بيولوجية، أو الهورمونات، أو طبيعة الذكر، التي لا سبيل الى تغييرها أو تطويرها ليصبح الرجل إنساناً مسؤولاً وليس ذكراً حيواناً. إذا درسنا التاريخ اكتشفنا أن هذه الازدواجية الأخلاقية هي قانون سياسي اقتصادي نابع من العبودية، وليست قانوناً بيولوجياً نابعاً من الهورمونات أو الاختلاف البيولوجي بين المرأة والرجل، بمعنى آخر ليس"قانون الطبيعة"هو الذي يفرق أخلاقياً بين الرجال والنساء، بل هي"القيم"يتربى عليها الطفل في البيت والمدرسة والجامعة والشارع والإعلام وغيرها من وسائل التربية والتعليم. لو كان القانون الطبيعي هو السبب، فلماذا كانت امرأة الملكة حتشبسوت على رأس الحكم في مصر القديمة؟ لماذا كانت الإلهة إزيس هي إلهة الحكمة والعقل؟ لماذا كانت"نوت"إلهة السماء؟ وفي العصر الحديث، لماذا كل النساء الحاكمات أو اللواتي حكمن في الغرب والشرق، من السيدة مارغريت ثاتشر إلى السيدة بينظير بوتو، وغيرهما الكثيرات، رئيسات الدول والحكومات، ووزيرات الحربية، ووزيرات الخارجية في مختلف بلاد العالم بما فيها الغابون وإسرائيل وبلاد تركب الفيل؟ هل يمكن رئيسة دولة أو رئيسة حكومة أن تقبل القيم الأخلاقية المزدوجة؟ أن يكون من حق زوجها أن يتزوج عليها؟ أو أن تكون له عشيقات وعلاقات خارج الزواج؟ المرأة العادية لا تقبل هذا الوضع المهين إلا اضطراراً وقهراً، حين لا يكون لها مأوى سوى هذا الزوج، أو أنها تخاف كلام الناس إن طلبت الطلاق، أو تذمرت أو اعترضت على قانون الطبيعة، لقّنها أبوها وأمها منذ الطفولة أن هذه هي الطبيعة، إن خرجت عنها تصبح شاذة. قد تقبل امرأة مثل هيلاري اضطراراً النزوات الجنسية لزوجها بيل كلينتون، حتى لا تفقد مصالحها السياسية والاقتصادية والانتخابية، المسائل كلها نسبية في عالمنا الرأسمالي الأبوي القائم على الازدواجية في كل القيم والقوانين، من قانون الزواج إلى قانون محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن، لكن زوجة بيرلوسكوني فضحته إعلامياً في إيطاليا والعالم. لماذا تسود الجريمة في العالم الكبير والأسرة الصغيرة؟ لأن القوة هي التي تحكم وليس العدل؟ لأن المجرم الأقوى يخرج من الساحة بريئاً لا يعاقب، ألم يخرج جورج بوش بريئاً من مذابح العراق؟ ألم يخرج نتانياهو بريئاً من مذابح فلسطين، ألم يخرج بيل كلينتون بريئاً من خيانته الزوجية؟ اذا أردنا عالماً يسوده السلام وليس الحروب، فلا بد من المقاييس العادلة الواحدة بين الدول والشعوب، إذا أردنا أسرة يسودها السلام، فلا بد من المقاييس الواحدة العادلة بين الزوجين. هناك شعار مرفوع اليوم يقول: لا سلام بغير عدل، وهو شعار صحيح يتبناه أصحاب وصاحبات الضمير الحي من بلاد العالم كافة، القانون العادل هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على العنف بكل أنواعه الفردية والجماعية. لا يشفع للمخرج رومان بولانسكي أنه عالمي مشهور، أو أنه أخرج أفلاماً عظيمة، فالإبداع الفنى العظيم لا ينفصل عن الإنسان العظيم، لا يمكن الفصل بين المسؤولية الفنية والحرية الشخصية، لا يمكن الفصل بين الفنان والإنسان، هل يمكن رجلاً أن يغتصب طفلة ثم يقدم لنا فناً إنسانياً رفيعاً؟ هذا الانفصام في الشخصية ليس هو طبيعة الرجل أو طبيعة الفنان، بل هو نتيجة الانفصام في النظام الاجتماعي السائد، الانفصام بين العام والخاص، بين الأخلاق والسياسة والفن، بين الضمير الحي والنص الديني والعبادات، كيف يمكن رجلاً أن يصلّي ويصوم ثم يخون زوجته المخلصة أو يكذب عليها؟ وكيف يمكن امرأة أن تصلّي وتتحجب وتتنقب ثم تخون زوجها المخلص أو تكذب عليه؟ وكم ننسى الجوهر الثمين الغالي تحت قشور رخيصة خادعة. هذا لا يمنعنا من محاولة فهم الأسباب الخاصة في حياة بعض الرجال أو النساء، التي تفرض عليهم سلوكاً يتنافى مع الضمير الحي، أو المسؤولية الأخلاقية، تختلف الأسباب في حياة بيرلوسكوني عنها في حياة بولانسكي، قد تكون الأسباب عند بيرلسكونى هي شهوة القوة والجنس والسلطة السياسية، قد تكون عند بولانسكي شهوة الجنس والضعف وافتقاد السلطة. يعجز الرجل عن ممارسة الجنس مع امرأة مساوية له أو ذكية واعية، فيذهب إلى فتاة صغيرة غريرة أو طفلة ساذجة، لا تكتشف ضعفه الجنسي أو النفسي، إلا أنه لا يمكن فصل الأسباب الخاصة عن الأسباب العامة، فالقيم الأخلاقية المزدوجة العامة تؤدي إلى قيم مزدوجة داخل الفرد، الانفصام في المجتمع يؤدي إلى انفصام في شخصية الرجل والمرأة سواء بسواء، هكذا يصبح لكل منهما حياتان، حياة في العلن نبيلة وعظيمة، وحياة في الخفاء دنيئة وخسيسة، تحاول الفنون تصوير هذا التناقض في حياة البشر، يحاول البعض تبريره واعتباره الطبيعة البشرية. لكن الطبيعة البشرية ليست درعاً حديدياً ثابتاً لا يتغير، لقد تغيرت الطبيعة أو الطبائع البشرية مع تغير العصور والأنظمة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، تتغير البيولوجيا مع التغير الاجتماعى، يتأثر كل منهما بالآخر لتظهر فصائل جديدة متطورة من البشر والحيوانات وجميع الكائنات، حتى الفيروسات تتغير وتتطور وتكتسب مناعة جديدة، والإنسان، الرجل أو المرأة، يتطور ويتغير ويكتسب أخلاقاً وصفات إنسانية أرقى. ليس كل رؤساء الحكومات بأخلاق بيرلسكونى، وليس كل الفنانين العظام بأخلاق بولانسكي، وهذا هو عزاؤنا الوحيد في عالمنا المحكوم ولا يزال بالقوة العسكرية الرأسمالية الأبوية العبودية ما بعد الحديثة، لا يزال الصراع مستمراً داخل كل مجتمع وكل أسرة، من أجل العدل والصدق والحرية والسلام وليس الاغتصاب والقهر والظلم والكذب. * كاتبة مصرية. نشر في العدد: 17022 ت.م: 11-11-2009 ص: 36 ط: الرياض