ينطلق اليوم مؤتمر"حركة التأليف والنشر في العالم العربي"الذي تعقده مؤسسة الفكر العربي في بيروت بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان وحضور الأمير خالد الفيصل رئيس المؤسسة وجمع كبير من وزراء الثقافة العرب والمهتمين بشؤون الكتاب والنشر، من كتّاب وباحثين وناشرين وإعلاميين. والمؤتمر الذي يعالج هموم النشر والتأليف والأزمات التي يشهدها هذا القطاع سيطلق مشروعاً لإنشاء سوق عربية مشتركة للكتاب. هنا مقالة للكاتب المصري سليمان عبدالمنعم الأمين العام لمؤسسة الفكر العربي حول قضية الكتاب والقراءة. في الحافلات وعربات المترو يقرأون. في محطات القطارات وأروقة المطارات يقرأون. وفي الأعياد والمناسبات السعيدة يتهادون الكتب. كتب جديدة مغلفة بأربطة مفضضة ومذهبة اللون كأنها علب مجوهرات! الكتاب لديهم مصدر معرفة، ومبعث بهجة وسعادة، ورفيق سفر، فلماذا إذا لا يتقدمون؟ أما جارتنا السيدة إيزورج الفرنسية ذات الأصل البولندي فقد رأيتها بالأمسِ تصطحب طفلها الرضيع وهي تدفعه أمامها في عربته الصغيرة تتجوّل في مكتبة"الفناك"الشهيرة لبيع الكتب... سألتها: أليس مرهقاً لك ومثيراً لملل طفلك الجميل المكوث هذه الساعات الطويلة أمام أرفف الكتب؟ أجابت مبتسمة: كلا، بالمرة. ثم أضافت ضاحكة انني أتعمد اصطحابه الى المكتبات لكي يشم مُبكراً رائحة الكتب فتبقى له رائحة معتادة أليفة فلا يزعجني في غرفة مكتبي وأنا أعمل! *** لماذا توقظ الكتب لدينا أحياناً الهواجس والشكوك بأكثر مما تثير الأحلام؟ كانت مكتبة جامعة غرونوبل للعلوم الاجتماعية في فرنسا قد اتجهت في التسعينات من القرن الماضي إلى نقل الكتب الورقية على وسائط حديثة وتقنيات جديدة، ما جعلهم يودون الاستغناء عن أعداد كبيرة من الكتب الورقية ذات النسخ المكررة لأنها تشغل حيزاً كبيراً من مساحة المكتبة. أخبرتني مديرة المكتبة ذات يوم أن في وسعي الاستفادة من برامج إهداء الكتب العلمية إلى الدول النامية وترشيح مكتبة جامعتي لكي يتم إرسال هذه الكتب العلمية القيمة مجاناً إليها. شكرتها بشدّة وقد اعتقدت ببراءة أنني أفعل شيئاً مفيداً. مضت شهور وأنا أحاول من دون جدوى معرفة مصير الكتب التي تمّ إرسالها. علمت في ما بعد أن هدية الكتب قد أثارت الشكوك والهواجس، فتمّ رفضها لسبب ما غير مفهوم. كانت الكتب المهداة هي في الواقع مؤلفات ومراجع علمية قيمة ورصينة في الاقتصاد والقانون والتاريخ والاجتماع. كان الخوف من الكتب في ما يبدو أقوى من شعور الامتنان بالهدية! *** لزمن طويل ظلّ الكتاب في حياتنا قضية وليس حلاً. ربما تتغير الأمور اليوم شيئاً فشيئاً... ثمّة وعي جديد بأهمية الكتاب وقيمة المعرفة في العالم العربي. لكن الوعي بحقائق الأشياء يلزمه عمل وإنجاز. وبعدما أصبح العالم قرية واحدة وكشفت الثورة المعرفية بالأرقام عن واقعنا الثقافي، تتوالى التساؤلات وتتجلى التحديات. فعدد إصدارات العالم العربي من الكتب سنوياً وفقاً لأكثر من مصدر بحثي عربي وأجنبي لا يتجاوز الثلاثين ألف كتاب في العام. وفي العام 2007 على وجه التحديد كان إجمالي عدد الكتب العربية نحو 27000 التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي. لكن الإحصاءات الأخيرة ذات المصدر الأجنبي تقرير أوضاع العالم 2009 ? مؤسسة La dژcouverte الفرنسية يهبط بإجمالي عدد إصدارات الكتب العربية إلى نحو 17000 عنوان كتاب جديد. وهو رقم لا يزيد كثيراً عن رقم إصدارات دولة واحدة مثل إيران 15000 عنوان كتاب جديد سنوياً. الأرقام إذاً لا تخلو من تضارب، لكنها على أية حال لا تخلو من دلالة مؤكدة هي تواضع ما ينتجه العقل العربي سنوياً من كتب جديدة. لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في ظاهر الأرقام، فلربما لا يكون حالنا سيئاً كثيراً مقارنة بعدد إصدارات الكتب الجديدة في دولة ضخمة مثل الهند أو دولة أخرى مثل تركيا. المشكلة تتجلى أكثر حين نعرف التواضع الشديد لعدد نسخ طبعة أي كتاب عربي، إذ إننا لو قمنا بضرب عدد إصدارات الكتب الجديدة في متوسط عدد النسخ المطبوعة مقسوماً على عدد سكان العالم العربي لكانت الحصيلة هزيلة، وهو ما يمكن تسميته بمعادل القراءة. هذا المعادل الذي لا يتجاوز 4 في المئة من معادل القراءة في بلد مثل انكلترا أو ألمانيا. ولو أننا تجاوزنا الجدال الدائر حول عدد ما ينتجه العقل العربي من كتب جديدة كل عام، فإن السؤال هو: وما الذي يحد من دور الكتاب وانتشاره في مجتمعنا العربي؟ وهو سؤال رديف لسؤال آخر حول أسباب تواضع قيمة القراءة والمعرفة والثقافة في حياتنا. يصعب تقديم إجابة واقعية وشاملة من دون التعرف إلى رأي الأطراف الثلاثة المعنية بهذه القضايا، وهي: المؤلف منتج المعرفة، والقارئ متلقي المعرفة والوسيط بينهما الناشر والموزّع. فلكل منهم تفسيره ورؤيته انطلاقاً من هموم وأولويات تختلف من طرف الى آخر. فالمؤلف العربي يكتب ويبدع في ظل ظروف بالغة الصعوبة إن لم تكن القسوة مقارنة بنظيره في أوروبا أو أميركا، فهو لا يستطيع إلا في ما ندر الاعتماد على المردود المالي لمؤلفاته كمصدر دخل وحيد. فالخمسة آلاف نسخة من طبعة كتاب جديد لن تكفل له إلا مبلغاً متواضعاً يقل عشرات وربما مئات المرات عما يحصل عليه مؤلف أوروبي مثلاً، مع أن كليهما يحتاج الى المتطلبات نفسها والمناخ الإبداعي ذاته. وربما زاد على ذلك أن المؤلف أو المبدع العربي يعيش ظروفاً مجتمعية أخرى بالغة الصعوبة. ليس أقلها أنه محاصر بقيود حرية الرأي والتعبير وليس آخرها أنه لا يجد ولو قدراً قليلاً من التكريم الذي يحظى به نجوم أُخر في المجتمع في مجالات الرياضة والفنون. وعلى رغم انتشار الجوائز المالية العربية التي تمنحها الدول والمؤسسات والأشخاص للمبدعين العرب، فما زالت معاناة المبدع العربي أكبر بكثير مما يلقاه من تكريم مادي أو أدبي. أما الطرف الثاني المعني بقضية الكتاب، وهو القارئ، فإنه يزيد المسألة تعقيداً. فهذا القارئ ينسحب من المشهد الابداعي في العقود الأخيرة. فمن يصدق أن روائياً بقامة نجيب محفوظ وفيلسوفاً بمقام محمد عابد الجابري لا يوزع من كتبهما أكثر من حفنة آلاف نسخة في الطبعة الواحدة؟ لماذا أشاح القارئ بوجهه عن الكتاب وانصرف عن القراءة؟ ثلاثة تفسيرات ممكنة أولها اقتصادي. فالمعاناة الاقتصادية تضغط بقوة على اختيارات الناس في مجتمع عربي لا يزيد دخل ثلثي سكانه على خمسة دولارات فقط في اليوم الواحد. من الطبيعي إذاً في ظل هذه المعاناة المعيشية أن تصبح الأولوية لرغيف الخبز قبل الكتاب. وثاني هذه التفسيرات اجتماعي ناشئ عن التطور التقني في مجال الإعلام والاتصالات، تطور أشعل خيال"القارئ"القديم وأبحر به في سماوات مفتوحة تعج بالفضائيات أو عبر شبكة الانترنت العنقودية. هل هي إذاً ثقافة الصورة التي تكاد تحل محل ثقافة الكلمة؟ أم أنها شبكة الإنترنت التي تمثل"الإدمان"الرقمي الجديد بما يتيحه من إمكانات لا نهائية للتواصل الإنساني؟ أياً كان الامر، فالمؤكد أن الكتاب قد تراجع بقدر ما تقدمت هذه الوسائط والبدائل العصرية الجديدة. لكن السؤال المحير هو: ولماذا لم تنتج الظاهرة ذاتها الأثر نفسه في مجتمعات أخرى متقدمة؟ فما زال الكتاب كتاباً وما زال القارئ قارئاً على رغم الفضائيات التي تتدفق من أجهزة التلفاز وعلى رغم شبكة الإنترنت التي تتعملق يوماً بعد يوم. أما التفسير الثالث لضعف الإقبال على القراءة فلربما كان يدور حول"ذائقة"القارئ العربي وما لحقها من تغيرات. قراء كثيرون انصرفوا عن الكتاب الفكري الجاد معتقدين أن إيقاع العصر وأولويات الحياة المعيشية لا يسمحان اليوم بترف الانشغال بطروحات الفكر والفلسفة. بل إن القارئ العربي يعزف عن التواصل مع الادب الطليعي في الرواية أو الشعر. من يصدق أن ديواناً للشعر حاز جائزة الدولة التشجيعية في مصر في إحدى سنوات التسعينات لم تتجاوز مبيعاته المئة نسخة في بلد كان تعداده آنئذ نحو ستين مليون نسمة؟ فهل يريد القارئ العربي نوعية معينة من الكتب أكثر اقتراباً من همومه وقضاياه وبأسلوب أقل تجريداً وتجريباً وأكثر سلاسة وبساطة؟ وقد لا يكتمل تفسير انسحاب القارئ من المشهد الابداعي والفكري من دون الإشارة إلى عاملين أساسيين هما الأمية التي ما زالت في العالم العربي لا تقل عن 30 في المئة لتحرم الكتاب بذلك من جمهور إنساني عريض له بقدر ما تحرم القارئ المفترض نفسه من حقه كإنسان في المعرفة وهو حق أصيل من حقوق الإنسان. أما العامل الثاني فهو تراجع قيمة القراءة في المنظومة القيمية للتربية، لا سيما لدى الأطفال والناشئة. فمن الذي يتحمل مسؤولية انصراف الأجيال الجديدة عن القراءة؟ هل الفرد نفسه أم أن هناك أدواراً مجتمعية أخرى غائبة كان يجب أن تضطلع بمسؤوليتها؟ يقال إن الدولة الألمانية تقدم دعماً حكومياً مخصصاً لتأليف كتب الأطفال ونشرها عن إدراك عميق بطبيعة الحال لأهمية مثل هذا الانفاق. ألا يلهمنا ذلك بمشروع أو مبادرة ما. وكيف يمكن البناء على مشاريعنا الناجحة وتطويرها مثل مشروع القراءة للجميع الذي طبع منه حتى الآن أكثر من 9 ملايين نسخة واعتبرته اليونسكو نموذجاً يحتذى داعية إلى تعميم التجربة والاقتداء بها؟ ولا يكتمل الحديث عن الكتاب العربي من دون الإشارة إلى الطرف الثالث في منظومته وهو الوسيط بين المؤلف والقارئ. فالناشر العربي وإن كان يمارس نشاطاً يوصف بالتجاري، فهو يضطلع أيضاً بدور قومي وثقافي وأخلاقي بكل معنى الكلمات الثلاث السابقة. ولا شك في أن قضايا القرصنة والاعتداء على حقوق الملكية الفكرية تثقل حركة تطور الكتاب العربي وتهدر حقوق المؤلف وربما الناشر أحياناً. والقانون وحده على رغم أهميته لن يضمن القضاء على مثل هذه الظواهر السلبية. ولكل من الناشر والمؤلف مآخذه المتبادلة ولا تخلو العلاقة أحياناً بينهما من اتهامات. وقد يكون لكل منهما الحق في بعض ما يشكو منه أو يطالب به. لكن المؤكد أننا نحتاج إلى ميثاق أخلاقي ورؤية جديدة تضبط العلاقة بينهما في إطار عصري كالذي نقرأ عنه في الدول المتقدمة. فالناشر الأجنبي لا يتولى مسؤولية الطباعة والتوزيع فقط، بل يضطلع بعملية التسويق الدعائي Marketing بمعناها الشامل والعميق، وهي عملية لا تبدأ فقط بحفلات التوقيع على كتاب جديد بل تتواصل عبر الكثير من أنشطة الترويج الثقافي الأخرى في الندوات والمنتديات والإعلام المقروء والمرئي والالكتروني. والحديث عن دور الناشر يستتبع بالضرورة معالجة القيود والعوائق التي تحد من تدفق الكتاب العربي وتداوله عبر الحدود العربية. وهي قيود وعوائق تتعلق بالرسوم الجمركية والبيروقراطية الإدارية وغير ذلك. ولعله آن الأوان لأن يكون للتكامل الاقتصادي العربي انعكاسه على حركة تدفق الكتاب العربي وتداوله برفع القيود وإزالة العوائق التي تحد من حريته. فللكتاب أيضاً حريته. والحق في تداول المعرفة والأفكار هو حق أصيل من حقوق الإنسان الثقافية متى كان ذلك لا يشكل افتئاتاً على مصالح جوهرية أخرى في المجتمع. *** يبدأ صباح اليوم في بيروت المؤتمر العربي الذي تنظمه مؤسسة الفكر العربي حول"حركة التأليف والنشر في العالم العربي: كتاب يصدر... أمّة تتقدّم"برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان وبالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية وفي إطار إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب. وهو المؤتمر الذي يفتتحه الأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي ووزير الثقافة اللبناني تمام سلام. والفكرة من وراء عقد هذا المؤتمر أن يضم وللمرّة الأولى معاً المؤسسات والتجمعات المعنية بقضايا الإبداع والتأليف والنشر والتوزيع من اتحاد الكتاب والأدباء العرب، واتحاد الناشرين العرب، والاتحاد العربي للملكية الفكرية، واتحاد كتاب الإنترنت العرب، وممثلي المؤسسات الثقافية الوطنية العربية، ومفكرين ومبدعين وخبراء. والسعي قائم لأن يتوج المؤتمر أعماله بمبادرة شركاء من أجل الكتاب العربي. مبادرة تحمل أصوات ورؤى ومقترحات كل المؤسسات العربية المعنية من أجل دفع حركة التأليف والنشر في العالم العربي وتطويرها وإزالة ما يحول دون انطلاقتها من صعاب ومعوقات. نحلم بمبادرة تطرح على سبيل المثال رؤية عربية لتشجيع عملية التأليف الجماعي لأعمال فكرية تؤسس لمشروع نهضوي عربي، فليس لدينا في الواقع تقليد المؤلفات الفكرية الجماعية على نحو ما نرى في مجتمعات أخرى. نحلم بمبادرة لأفكار جديدة لتشجيع إبداعات الشباب، والاهتمام بكتب الأطفال، ودعم النشر الإلكتروني، وحماية المخطوطات كجزء من تراثنا الثقافي. نحلم بمبادرة تطلق العنان لأفكار دعم المبدعين من خلال منح مالية لتفرغهم للإبداع لفترة معينة، نحلم بمبادرة تعيد الاعتبار لقيمة القراءة في حياتنا، لا سيما لدى النشء والشباب، بما في ذلك تطوير المكتبات العامة لتستعيد ألقها ومكانتها الأولى في عصر الإنترنت والفضاءات المفتوحة. نحلم بمبادرة طموح تطلق الدعوة لسوق عربية مشتركة للكتاب، لتكون بادرة لتضامن ثقافي عربي طالما دعت إليه مؤسسة الفكر العربي منذ الخطاب التأسيسي الأول لرئيسها الأمير خالد الفيصل في بيروت في أيار مايو 2000.