فيما تبدي اوساط دولية كثيرة قلقها واستنكارها بسبب المأساة البشرية التي يتعرض اليها شعب فلسطين في غزة، فإن فريقا واسعا من الوسطاء الدوليين الذين يأتون من العالم الاطلسي الى المنطقة بغرض التوصل الى وقف هذه المأساة، يضع مسؤولية ما يحصل في غزة اليوم على عاتق الطرف الفلسطيني ويحمل"حماس"تحديدا مسؤولية سقوط ذلك العدد الكبير من الضحايا الفلسطينيين. اليست"حماس"هي التي رفضت مساعي التهدئة؟ الا تطلق الصواريخ على البلدات والمستوطنات الاسرائيلية القريبة من غزة؟ اليست هي التي ترفض كل حوار مع اسرائيل وهذا فضلا عن رفض الاعتراف بها والانخراط في عملية السلام معها؟ من هذه الزاوية يغدو سلوك فلسطينييغزة، وسلوك"حماس"بصورة خاصة، امرا مخالفا لأصول العلاقات الدولية. انه سلوك لا يمكن فهمه وتفسيره الا باستذكار الحرب المريرة التي يخوضها العالم المتحضر ضد ظاهرة الارهاب الاجرامية، كما قال الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز ابان استقباله وفد الاتحاد الاوروبي. انه سلوك عدواني فحسب، يهدف اولا واخيرا الى تدمير اسرائيل، قلعة الحضارة الغربية ومنارتها المشعة في الشرق. الصورة العامة التي تتكون من متابعة هذه المواقف والتقييمات هي ان اسرائيل دفعت بأكبر جيش في المنطقة وبسلاح الجو الاسرائيلى الذي يعتبر رابع قوة جوية في العالم، للقيام بأعمال القصف في غزة بغرض الدفاع عن نفسها وعن سكانها ضد الصواريخ المحدودة الاثر والمحلية الصنع التي يطلقها الفلسطينيون من غزة ضد الاسرائيليين. ولا تختلف هذه الصورة عن الرواية الاسرائيلية وعن روايات غربية تتكرر في كل مجابهة عسكرية بين الفلسطينيين والعرب من جهة والاسرائيليين من جهة اخرى. هذه الرواية تحمّل، على الدوام، الفلسطينيين والعرب مسؤولية الحروب التي وقعت بينهم وبين اسرائيل، وتضع على عاتقهم مسؤولية سقوط الالوف من العرب الذين سقطوا في تلك الحروب، هذا فضلا عن المئات من اليهود الذين قضوا فيها. اذ يجمع اكثر المحللين الاسرائيليين والمتعاطفين مع اسرائيل على مثل هذه الرواية، فإن هناك صهيونياً واحداً على الاقل يقدم مقاربة مختلفة للصراع العربي- الاسرائيلي. ولهذه المقاربة اهمية خاصة ليس فقط بسبب الاطار الخاص الذي ترسمه للصراع، ولكن لأن صاحبها هو فلاديمير جابوتنسكي، احد الزعماء التاريخيين للحركة الصهيونية، فهو الاب الروحي والفكري لحزبي"ليكود"و"كاديما". واذ نرجع الى مقال كتبه فلاديمير جابوتنسكي عام 1923 بعنوان"الجدار الحديدي: نحن والعرب"، نجد فيه خير شرح للعدوان الاسرائيلي الحالي على غزة، ولمواقف كل من الاحزاب الاسرائيلية الرئيسية الثلاثة"ليكود"بزعامة بنيامين نتانياهو، و"كاديما"بزعامة تسيبي ليفني، والعمل بزعامة ايهود باراك. بل انه من المفارقات ان جابوتنسكي، الذي كان من اشد الزعماء الصهاينة تطرفا وعنفا، والذي انتشرت افكاره بين الغلاة من الارهابيين الصهاينة، يبدو اكثر دقة في تصوير مواقف وحوافز منظمات المقاومة الفلسطينية من بعض الوسطاء الدوليين الذين يضعون مسؤولية الجرم على الضحية. فأي علاقة بين تلك الشروحات وبين احداث غزة؟ وكيف"يصف"فلاديمير جابوتنسكي قبل 86 عاما الاحداث في ذلك الجزء من ارض فلسطين؟ يقول جابوتنسكي ان الهدف الذي لن يحيد عنه هو تحويل فلسطين الى دولة بأغلبية يهودية، وان هذا الهدف هو سلمي اما الوسيلة فهي ليست سلمية، وان استخدام العنف لن يكون بسبب موقف الصهيونية تجاه العرب وانما بسبب موقف العرب تجاه الصهيونية. فالعرب سوف يقاومون بالضرورة"الاستعمار والاستيطان الصهيوني". هذه المقاومة ليست شأنا استثنائيا، ولا هي تعود، كما يقول جابوتنسكي، الى سلوك المستوطنين واعمالهم، ولكن"... لانه لم يسبق في التاريخ او في اي مكان من العالم ان قبل السكان الاصليون لبلد ما بقيام مستوطنات للغير على اراضيهم"."ان اي شعب - سواء كان متمدنا ام همجيا - ينظر الى بلده على انه وطنه القومي، الذي يعيش فيه كسيد مطلق. هؤلاء السكان لن يقبلوا طوعا بالرضوخ لسيد جديد وغريب، ولا حتى لشريك من هذا النوع". "العرب"قال جابوتنسكي،"هم ليسوا استثناء لهذه القاعدة. المساومون بيننا يسعون الى اقناعنا بان العرب هم نمط من الحمقى الذين يمكن الاحتيال عليهم من خلال تزويق اهدافنا ومرامينا، او انهم - اي العرب - هم من عبدة المال الذين يتخلون عن حقوقهم الموروثة في فلسطين من اجل كسب مالي... هذه الصورة لا اساس لها من الصحة. لعله من المستطاع ان نشتري بعض الافراد العرب، ولكن هذا لا يعني ان عرب اسرائيل الكبرى مستعدون لبيع وطنية لا تقبل حتى الشعوب المتخلفة بالتخلي عنها. ان كل شعب سوف يقاوم المستوطنين الاغراب طالما بقي له ولو بصيص من امل في التخلص من خطر الاستيطان الاجنبي. هذا ما يفعله عرب فلسطين، وما سوف يستمرون في القيام به ما دام هناك شعاع من الامل بقدرتهم على منع تحويل"فلسطين"الى"ارض اسرائيل". يضيف الزعيم الصهيوني الى ذلك،"ان الاستعمار يفسر نفسه بنفسه بصورة قاطعة لا يمكن التهرب منها، وهو مفهوم من العرب ومن اليهود. للاستعمار هدف واحد. العرب الفلسطينيون لا يقبلون هذا الهدف. هذه طبيعة الاشياء. تغيير هذه الطبيعة امر غير ممكن". ما العمل اذن؟ يجيب جابوتنسكي على هذا السؤال بقوله"ان قبول العرب الطوعي للمشروع الصهيوني مستحيل. استطرادا فإن على الذين يعتقدون بأن التفاهم مع السكان الاصليين اي العرب هو شرط من شروط تحقيق المشروع الصهيوني، عليهم ان يتخلوا عن الصهيونية. الاستعمار الصهيوني، حتى في اضيق اشكاله، لا يتحقق الا ضد ارادة السكان الاصليين. هذا الاستعمار لن يستمر ولن يتطور الا في ظل حماية قوة مستقلة عن هؤلاء السكان - من خلال جدار حديدي لا يستطيع السكان الاصليون اختراقه. هذه هي باختصار سياستنا تجاه العرب. أي صياغة اخرى لا تعدو ان تكون نفاقا". هذا لا يعني، في نظر جابوتنسكي غياب امكانية الاتفاق مع العرب. هذا الاتفاق ممكن، ولكن بعد ان يفهم العرب انهم لن يستطيعوا بأي شكل من الاشكال ان يخترقوا"الجدار الحديدي". او بمعنى آخر قيام وتقوية حكومة في فلسطين يغيب عنها اي تأثير عربي، اي حكومة سوف يحاربها العرب. واذ يخسر العرب هذه الحرب، ويشعرون بالقنوط الكامل وبفقدان اي امل في كسب اية جولة من جولات الصراع مع هذه الحكومة، وعندما تكسب هذه الحكومة كل جولات الصراع وتخرج منها بالانتصارات الساحقة، عندها فقط تتوفر فرصة التفاهم بين العرب والاسرائيليين، في تقدير جابوتنسكي. تمكن الاسرائيليون فعلا من اقامة جدار حديدي حول اسرائيل. تمكنوا من اقامة اقوى جيش في المنطقة. بل تمكنوا من تكوين قوة عسكرية قادرة على ان تهزم كل جيوش المنطقة مجتمعة. ولكن هل فشل العرب في اختراق هذا الجدار؟ ما حدث في حرب عام 1973، وما حدث في لبنان على امتداد العقدين الاخيرين من الزمن وما يحدث في فلسطين اليوم يدل على ان العرب قادرون على اختراق الجدار الحديدي. هذه الاختراقات موضعية ومتفرقة ومحدودة الاثر. ولكن لها دلالات بعيدة المدى. الاسرائيليون فهموا هذه الدلالات، لذلك فإنهم يخوضون الحرب تلك الاخرى بقصد القضاء عليها وعلى مقدماتها ومفاعليها. فهل يفهمها العرب؟ هل يفهمها الوسطاء الدوليون الذين يصرون على تحميل صواريخ"حماس"مسؤولية مأساة غزة؟ * كاتب لبناني نشر في العدد: 16715 ت.م: 2009-01-08 ص: 15 ط: الرياض