كان التساؤل قبل أيام قليلة يتركّز حول: كيف ستكون عليه نهاية العام 2008؟ فإذا بصياغة السؤال تتبدّل لتصبح: ماذا وكيف سيكون عليه العام الجديد 2009؟ ولم ننتظر طويلاً للحصول على الجواب بعدما تم ترحيل مآسي ما سبق الى ما هو آت، وفي ضوء تمادي غزوة غزة ومتابعة حجمها الحارق والملتهب والمنقول مباشرة على الهواء على مرأى ومسمع العالم العربي منه والدولي. ولعل العودة الى بعض الوقائع التاريخية تجعلنا نفهم ما الذي يجري. عندما اتخذ رئيس الحكومة الاسرائيلية الراحل ولا ندري إذا كان رحل فعلاً أم أنه في الغيبوبة، ارييل شارون، قراره بالانسحاب العسكري من غزة، قام بوجه قراره الكثير من تظاهرات الاحتجاج على أساس ان الانسحاب من القطاع سيعتبر هزيمة لاسرائيل. وحاول شارون في حينه أن يُهدئ من روع المحتجين على قراره، فطرح"المطالعة"التالية: "انتبهوا جيداً لما سأقوله، فبعد انسحابنا ولو بقرار من طرف واحد سيحدث العديد من المواجهات بين مختلف الفصائل الفلسطينية والتي يعصف بين أجنحتها العديد من التناقضات والاختلاف في نظرة كل فصيل حيال أسلوب التعاطي مع اسرائيل، وتحديداً بين حركتي"فتح"و"حماس"، ولا استبعد تحوّل السجالات القائمة في ما بينهم الى اشتباكات دموية والعديد من عمليات التصفية الجسدية في صراع مرير على تولي السلطة... وعندها سيتأكد للعالم وبصورة خاصة الولاياتالمتحدة الأميركية أن الفلسطينيين لا يستحقون التمتع بالاستقلال الذاتي، وبالتالي الدولة الفلسطينية من حيث عدم قدرتهم على حكم أنفسهم بأنفسهم". وختم بالقول:"لا تحزنوا على انسحابنا من غزة، وستدركون في ما بعد جدوى وصوابية قراري". وصدقت"نبوءة"ارييل شارون وكأنه كان يقرأ في كتاب. وحتى كتابة هذه السطور كانت آلة الحرب الاسرائيلية تمعن في تنفيذ أهداف حربها الحالية وفي طليعتها تدمير البنى التحتية لحركة"حماس"ووضع حد نهائي لتعريض أمن اسرائيل والاسرائيليين للخطر عبر الصواريخ التي تطلقها عناصر القسام. ونظراً لقصف الطائرات الاسرائيلية بهذا العدد الكبير من الصواريخ بفضل قواتها المتفوقة جوياً أمكن تدمير العديد من المواقع الاستراتيجية، اضافة الى المباني السكنية. على أن القصف الجوي المركز منه أو العشوائي ألحق دماراً كبيراً، لكن في تقدير بعض الخبراء الاستراتيجيين أن اسرائيل عبر حربها الحالية قد نجحت في تدمير البنى التحتية والفوقية لقطاع غزة، لكن ليس بالضرورة أن يكون القصف الجوي المكثف جداً نجح في تدمير البنى التحتية لحركة"حماس". ومن هذا المنطلق أصرّت اسرائيل على مواصلة حربها على غزة وعدم الإصغاء الى الدعوات الاقليمية والدولية لوقف اطلاق النار والعودة الى أجواء التهدئة، وهذا يندرج ضمن التوجه الاسرائيلي والذي جرى التعبير عنه على لسان وزير الحرب ايهود باراك من"أن قواعد اللعبة قد تغيرت"! مقابل كل ما جرى وما يجري في غزة، هل يملك الفلسطينيون والعرب خطة... أي خطة للمواجهة غير بيانات التنديد والاستنكار؟ وهذا أوقع"النظام العربي"في حالة من الإرباك، وتجلى ذلك في السجالات الحادة بين مختلف الأفرقاء الفلسطينيين والعرب حول امكان عقد قمة عربية طارئة"لمواكبة"مجازر غزة. فبين معترض على انعقاد القمة في الدوحة، وآخر يتحفظ على مبدأ عقد القمة وما يمكن أن يخرج به الزعماء العرب في هذه الفترة بالذات. وحيال تصاعد لهجة الخلافات حول مكان القمة، طرح الرئيس ميشال سليمان فكرة استضافة هذه القمة في لبنان، وكان هذا الاقتراح لافتاً ذكّر اللبنانيين والعرب يوم كان لبنان نقطة التقاء كل الاضداد والمتناقضات العربية على أرضه، بقطع النظر عما ستؤول إليه الأحداث وما إذا كان الطلب اللبناني لاستضافة القمة سيشكل جامعاً مشتركاً سيلقى التجاوب المطلوب. وخلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة للتداول بشأن القمة الطارئة وجدول أعمالها دعا وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل الذي ترأس بلاده دورة الجامعة الحالية الى اجتماع مصالحة فلسطيني فوري مؤكداً أن العرب لن يستطيعوا مدّ يد العون لهم ما لم يتوحدوا، ومحذراً من أن الانقسام سيجلب لاسرائيل انتصاراً وراء انتصار. وعندما نصل في سياق الاستعراض والتحليل الى بعض الأمور المسكوت عنها يجب التوقف عند النقاط الرئيسية التالية: * ظاهر الصراع واضح قدر وضوح الأفرقاء المتحاربين. أما"الباطن الظاهر"منه فيشير الى دور إيران في كل ما جرى، ووصف زعيم عربي الوضع ل"الحياة"بالقول:"انها المنازلة الايرانية - العربية". فليس سراً على أحد مدى الدعم الذي تتلقاه حركة"حماس"من طهران لتأمين"استمرارية الصراع مع اسرائيل"، لذا قال أكثر من مسؤول عربي تعليقاً على ما يجري في غزة:"إننا لا نريد أن يفرض علينا طرف فلسطيني معين ما تمليه الأجندة الايرانية". وفي هذا السياق حرص الرئيس محمود أحمدي نجاد على استنكار ما اسماه"الصمت المشجع"الذي يبديه بعض الحكومات والقادة العرب". وترى طهران"ان المواقف تجاه مجازر غزة تمثل تكراراً لتلك التي تبنتها خلال الحرب الاسرائيلية على لبنان". ومع أن بعض الأوساط ربط بين حرب غزة وحرب لبنان وراهن على إيقاع خسائر كبيرة مع بداية الحرب البرية إذا بدأت، فهناك العديد من نقاط الاختلاف بين التجربتين. * كان لافتاً في الخطاب الأخير للأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله تخصيص القسم الكبير منه لتوجيه دعوة مباشرة الى الشعب المصري وبخاصة الى ضباط جيشه كي يمارسوا ضغطاً على السلطة لفتح معبر رفح، وهذا ما فجّر الخلاف المكشوف والعنيف بين"حزب الله"ومصر. ويذكّر هذا الطرح بمقولات فلسطينية سابقة من أن تحرير فلسطين يمرّ في جونيه وعيون السيمان في لبنان والآن يقال: إن تحرير فلسطين يمرّ حتماً بمصر! كما تذكّر كل هذه الطروحات والمقولات باستحضار الشعار القديم زمن المشاعر القومية المتفجرة والذي كان يدعو في حينه الى ضرورة تحرير الأنظمة العربية أولاً... ثم يجري تحرير فلسطين لاحقاً. * نتذكر الفترة التي أطلقت وتكثفت فيها الدعوات الايرانية الى"ازالة اسرائيل عن الخريطة"، على لسان الرئيس أحمدي نجاد. ثم تبعت ذلك دعوة السيد حسن نصرالله والذي أعلن في رثائه للقيادي عماد مغنية"ان معركة انهاء اسرائيل من الوجود قد بدأت"... فهل تمارس اسرائيل هذا الصراع بشكل معكوس وتعمل بإصرار على انهاء وجود"دولة حماس"؟ * سبق للرئيس جورج بوش ان أعلن مراراً عن ولادة الدولة الفلسطينية قبل رحيله عن البيت الأبيض. وها هو يرحل"والدولة الفلسطينية"لم تنشأ. وما يخشاه المتابعون لهذه الشؤون أن يكون المقصود بقيام دولتين تعيشان جنباً الى جنب"دولة حماس"في غزة، و"دولة عباس"في رام الله. ويبدو ان"حزب الله"يراهن على حالات الاحتقان القابضة على جماهير الشارع العربي، فهو يرى نفسه الزعيم العابر للمسافات، وهو رمز للذي لم يهزم في الصراع العربي - الاسرائيلي. * ان الدعوات التي تطلق لقيام"الانتفاضة الثالثة"تحاكي مشاعر وطموحات الفئات التي تؤمن إيماناً يقيناً ان الصراع مع اسرائيل لا يمكن الوصول الى حل له إلا عبر النضال المسلح، فيما يرى الفريق الآخر من الداعين الى اعتماد الموضوعية والواقعية في التعاطي مع اسرائيل انه يجب أن يقوم على مبدأ خذ وطالب. على أن المثير للكثير من الشكوك والريبة أن يكون رهان فصيل فلسطيني أو أكثر هو بيد"العامل الخارجي"من ايران الى غيرها، وما يمكن أن يحدث في هذه الحال أن تصرّ الحاضنة الايرانية لبعض النضال الفلسطيني على إنهاء اسرائيل من الوجود حتى آخر مقاتل حمساوي! * ومن وحي غزوة غزة، لا يجب توجيه اللوم الى الحركات المتطرفة والأصولية بل على صناع القرار البحث الجدي والعميق في الأسباب التي أدت الى نشوء هذا النوع من التطرف المدمّر. وفي الكلام الأخير: ان حرب غزة بداية النهاية لمرحلة سادت المنطقة وحان الآن موعد قطاف رؤوسها! * كاتب وإعلامي لبناني نشر في العدد: 16711 ت.م: 2009-01-04 ص: 15 ط: الرياض