الخبر السيئ الذي نطالعه يومياً هو قيام إسرائيل بعملية عسكرية في قطاع غزة. لكن الخبر الأسوأ هو أنه - ما لم تتحرك دول المنطقة والسلطة الفلسطينية وحركة"حماس"بسرعة - فإن العمليات الإسرائيلية ضد قطاع غزة سوف تتصاعد وصولاً إلى اجتياح القطاع. الخطة الإسرائيلية كما عبر عنها عدد من القيادات العسكرية هي البدء بضربات مركزة تستهدف الناشطين الفلسطينيين سواء بالقصف أو التوغل داخل غزة، ثم توسيع العملية تدريجياً بما في ذلك إمكانية اجتياح كامل للقطاع لتدمير"البنية التحتية"للقدرة العسكرية ل"حماس"وغيرها من الفصائل المسلحة، ثم يعقب ذلك الانسحاب والعودة مرة أخرى حسب الظروف من دون التورط في احتلال القطاع بصورة دائمة، وذلك على غرار عملية"الدرع الواقي"التي قام بها ارييل شارون في الضفة الغربية في آذار مارس 2002. وكأن السبع سنوات الماضية لم تكن دليلاً كافياً على أن العنف لن يحل مشكلة إسرائيل، مهما كانت القوة العسكرية المستخدمة. إن الاجتياح الإسرائيلي الوشيك لغزة سيكون في حقيقة الأمر دعوة لتأجيج الصراع، وحافزاً للفصائل المسلحة كي تبتكر وسائل جديدة لبناء قوتها العسكرية والبحث عن وسائل جديدة لتحقيق درجة ما من الردع ضد الهجمات الإسرائيلية. بعض القادة العسكريين الإسرائيليين وبعض المحيطين بأولمرت فهموا ذلك، وتقبل البعض الدعوات العديدة للتوصل لوقف لإطلاق النار مع الفصائل المسلحة في غزة، لكن الأغلبية في حكومة إسرائيل ترى في الهجمات الفلسطينية فرصة للانقضاض على حركة"حماس"وتدمير قوتها العسكرية. لكن عمليات التوغل الإسرائيلية لن تقضي على القدرات العسكرية ل"حماس"وإن أضعفتها. والقصف الجوي لن يوقف إطلاق صواريخ"القسام". والاجتياح وإعادة الاحتلال المؤقت لن يوقفا تهريب الأسلحة وإن جعلا ذلك أكثر صعوبة. والاغتيالات لن تقود الفصائل الفلسطينية المسلحة لاختيار السلام بل ستزيد من تشددها. وسياسة الحصار فشلت في تحقيق أهدافها حتى وإن كان البعض يعتقد أنها أثرت سلباً على شعبية"حماس". الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوقف القصف هو اتفاق لوقف إطلاق النار، يتم التفاوض عليه بين إسرائيل من جهة والفصائل الفلسطينية المسلحة من جانب آخر عن طريق طرف ثالث بمشاركة السلطة الفلسطينية الشرعية، بحيث يتضمن وقفاً لكل الأعمال العدائية بين إسرائيل وقطاع غزة، مع تشغيل منافذ القطاع وفقاً لاتفاق المعابر تحت إشراف هيئة المعابر الفلسطينية الشرعية مدعومة بقوة أمنية تابعة للسلطة الفلسطينية الشرعية. التوصل لمثل هذا الاتفاق لا يتوقف على تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية، ولا يتطلب تعديلاً في موازين القوى الحالية بل لا يؤثر عليها كثيراً. فهو سيدعم موقف الرئيس الفلسطيني في الضفة وفي غزة وسيخلق أجواء فلسطينية داخلية تساعده على مواصلة التفاوض مع ايهود أولمرت بشكل أفضل، وفي الوقت نفسه سيعادل ذلك بتقليص الضغط على حركة"حماس"، وسيخفف الاحتقان الحالي داخل صفوف الحركة بما يمهد الأجواء لحوار فلسطيني - فلسطيني مثمر. من ناحية أخرى، سيقوي وقف إطلاق الصواريخ من موقف أولمرت أمام الرأي العام الإسرائيلي الذي يهتم أولاً وأخيراً بتحقيق الأمن والهدوء - من دون الاعتراف بحركة"حماس"أو حتى اجراء حوار مباشر معها. كذلك فإن تهدئة الوضع على الحدود الفلسطينية ستحسن الأجواء بين مصر وإسرائيل، وكل ذلك يؤدي الى تحسن عام في الأجواء يساعد الولاياتالمتحدة في مسعاها الحالي ولا يتطلب منها تنازلات في موقفها من التنظيمات المسلحة. لكن هذا الاتفاق، مع أفضليته للجميع، لن يتوصل إليه الأطراف من دون مسعى إقليمي جاد. فالحكومة الإسرائيلية قررت أنه ليس أمامها بديل من العمليات العسكرية من أجل إيقاف إطلاق"صواريخ القسام". ورئيس الوزراء أولمرت يحتاج لإظهار الشدة درءاً لاتهام الرأي العام له بالفشل في إدارة حرب لبنان، خاصة مع قرب صدور تقرير"لجنة فينوغراد". ووزير الدفاع ايهود باراك مصمم أيضاً على إعادة بناء سمعته كعسكري قادر وصلب، لمحو ذكرى تفاوضه مع ياسر عرفات تحت ضغط النار وتمهيداً للانتخابات القادمة. أما بقية القيادات العسكرية فترى أن"حماس"استغلت فترة الهدوء السابقة لبناء ترسانة من الأسلحة في قطاع غزة، من خلال التهريب عبر الأنفاق عند معبر رفح، وأن إطلاق"الكاتيوشا"منذ عدة أيام باتجاه عسقلان دليل دامغ على تحول"حماس"الى تهديد للمراكز السكانية، وهو وضع تقول هذه القيادات إنها لن تتعايش معه. ومن ثم، يحتاج الأمر الى مسعى حثيث من قبل دول المنطقة خاصة مصر لإقناع السلطة الفلسطينية بأفضلية وقف إطلاق النار وبضرورة ضبط عناصر"فتح"في قطاع غزة لضمان عدم تخريب الاتفاق، وكذلك إقناع الفصائل المسلحة في قطاع غزة بالالتزام الأمين والكامل بوقف إطلاق النار عند الاتفاق عليه، والسعي مع إسرائيل والولاياتالمتحدة لترجيح خيار وقف إطلاق النار أخذاً في الاعتبار أن اجتياحاً إسرائيلياً لقطاع غزة - بعد عمليات التوسع الاستيطاني الأخيرة - سيدفع بالشارع العربي كله، وليس الفلسطيني فقط، بعيداً عن المسار التفاوضي الذي أطلقه اجتماع أنابوليس. * ديبلوماسي مصري سابق ومدير مشروع"الصراع العربي - الإسرائيلي"، مجموعة الأزمات الدولية