جاء الانهيار المالي والمصرفي بينما الحرب العالمية على الفقر على منعطف حاسم، وترى البلدان الفقيرة الانهيار هذا أكبر، بما لا يقاس، من انكماش أو ركود يدوم بعض الوقت ويمضي، وهو قد يؤرخ لفوات فرصة ازدهار، وخروج من الفقر، لم تتح منذ أعوام طويلة، وينبغي ألا ننسى، في الجو الحالك المخيم، أن نصف القرن المنصرم شهد أعظم خروج جماعي من الفقر في تاريخ الإنسانية. وفي 2008، تقلصت نسبة سكان العالم الذين يعانون الفقر المدقع وهو عتبة دخل يبلغ دولاراً واحداً في اليوم الى خُمس ما كانت عليه في 1960، وبلغ دخل المواطن العادي، العالمي، نحو ثلاثة نظيره في 1960. ويهدد الانهيار الإنجاز الكبير هذا، فهو أصاب بلداناً فقيرة كثيرة بآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، والباعث على القلق والخوف هو أن البلدان التي أصابتها الأزمة لا يزال اختبارها الحرية السياسية والاقتصادية في طوره الأول، ولا يزال إدراكها منافع الحرية المزدوجة وآثارها غير ثابت. فخبراء التنمية أوكلوا الى الحكومات خطط التنمية، ووضعوا الاستثمارات في يدها، ولكن من اضطلع، فعلاً وحقيقة، بالتنمية لم يكن الحكومات بل"الناس اللي تحت"، أي الفقراء. فبادر فقراء وناس عاديون كثر في عدد من المجتمعات الى إنشاء مشاريعهم من غير استشارة أحد ولا إشارته. فبقال كينيا وسع محل البقالة وجعل منها"سوبر ماركت"كبيراً، والخياطة النيجيرية غامرت بصناعة الملابس وصبغتها بتقنية استنبطتها، وتعاطى المدرس الصيني تصدير الجوارب، وتعهد موظف كونغولي شراء هواتف خلوية وتوزيعها وتصليحها بينما تدور الحرب الأهلية في بلده ? هؤلاء كلهم، وغيرهم مثلهم، لم ينتظروا مخططاً توجيهياً ولا معونة. ولكنهم أعملوا الحرية الاقتصادية التي خلّت دولهم بينهم وبينها. فعادت عليهم، وعلى بلادهم، بالمنفعة. وتتهدد الأزمة الاقتصادية العالمية الإنجازات من البلدان الفقيرة بالإحباط. وحذر رئيس الوزراء الهندي مانموها سينغ من تقهقر دعم سياسات الانفتاح في العالم النامي. وهو يقدر أن تقييد الحرية الفردية أشد ضرراً على البلدان الفقيرة من نتائج الركود العالمي، أو تردي أسعار السلع، أو تضاؤل تدفق الرساميل. وعلى خلاف سينغ، لم يكتم إيفو موراليس، الرئيس البوليفي، شماتته بانهيار مصرف"ليمان براذرز"الأميركي الضخم. واستنتج من الانهيار هذا أن الحل هو تولي الدولة الإشراف على الاقتصاد الوطني، وإخراج الاقتصادات الوطنية من عهدة السوق. ويؤيد قادة الأرجنتين والبرازيل والأكوادور ونيكاراغوا وهندوراس وباراغواي وفنزويلا وجمهورية الدومينيكان على مقادير متفاوتة، شماتة موراليس بالرأسمالية. ولا يقتصر التأييد على أميركا اللاتينية وقادتها، فيتعداها الى فلاديمير بوتين الروسي. والدعوة الى جمع مقاليد الإدارة الاقتصادية بيد الدولة قد تلقى الترحيب في الشرق الأوسط، والبلدان"السوفياتية"السابقة، وفي بلدان كثيرة في أفريقيا وآسيا. ويماشي هذه النزعة خبراء غربيون مثل جيفري ساكس. فهؤلاء يذهبون الى أن فقراء البلدان النامية عاجزون عن الخروج من الفقر والازدهار، إلا من طريق خطط رسمها خبراء غربيون، وأوكلوا بها حكومات البلدان النامية. وإذا اضطرت الحكومات الغربية الى الانكفاء على مشكلاتها الداخلية، وهذا ما تحملها عليه الأزمة الاقتصادية، تذرعت حكومات البلدان النامية بالانكفاء هذا، واعتذرت به عن استكمال نزولها لشعوبها عن الحريات الفردية، السياسية والاقتصادية، التي نمت المبادرات الاقتصادية في كنفها. وبعض الردود على الأزمة الحالية تشبه ردوداً سابقة على أزمة 1929. ففي كلتا الحالين ارتفعت عقيرة الشاكين بالتنديد بالأثرياء الجشعين والمتهورين. وزعم سياسيون وخبراء كثر أن السياسة الحمائية والتدخل الإداري الحكومي هما العلاج البديهي، ولعل معرفتنا، اليوم أي في أعقاب عقود على الخروج من الركود الكبير، بأن العلاج تأتى من صمود الرأسمالية الديموقراطية، ومن استئناف الاقتصاد الأميركي مساره، هذه المعرفة هي السد في وجه عودة"علاج"أشد خطراً من المرض. ولكن"اقتصاد التنمية"الذي نادى به خبراء الاقتصاد في خمسينات القرن الماضي أدى الى نتائج لا تزال تعرقل، في خضم الأزمة القائمة، معالجة الفقر. فزعم تقرير صدر عن الأممالمتحدة في 1951، أعده فريق ترأسه أرثر لويس حائز نوبل الاقتصاد لاحقاً، أن نصف المزارعين بمصر هم من غير المنتجين. وخلص التقرير من زعمه المهين إلى أن الفقراء لا يعول عليهم في إنشاء الثروة الوطنية وإنتاجها، على خلاف اضطلاعهم بدور حاسم في الثورة الصناعية الأوروبية، واقتصار الدولة على أداء دور ثانوي ومساند. وأوصى دارسون آخرون بمنح الدولة سلطات أوسع، تتولى بموجبها إخراج الاقتصاد من الركود، في ضوء دور الدولة الغربية في معالجة أزمة الكساد الكبير 1929. فتجاهل تقرير آخر، نشر في 1947، إسهام الحريات الفردية في العلاجات الناجعة، الحكومية جزئياً. وحسب كتّابه أن قيام الحكومات بإجراءات الدعم، أياً كانت حصة الحريات السياسية والاقتصادية المتاحة، هو الدواء الناجع. فعمموا على تشيلي، البلد الديموقراطي، وبولندا، المقيّد بقيود التسلط السوفياتي، والمستعمرات البريطانية والفرنسية في أفريقيا،"خطة تنمية"واحدة ومشتركة. وهذا خُلف. وضعف ايمان الخبراء بتنمية اقتصادية من قاعدة الهرم الى أعلى. ونسبوا النموذج الرأسمالي التقليدي الى"العفوية"، وقالوا باستحالتها. ومالوا الى تنمية تتولاها الدولة. واحتذوا على السياسة السوفياتية في الثلاثينات، وعلى تفاديها الركود، وغفلوا عن الثمن المروع الذي سدد من الأنفس التي ضحي بها والحقوق التي داستها الإدارة الحزبية. وقدم اقتصاديو التنمية وخبراؤها دور حجم الاستثمار في التجهيزات المادية على دور استعمال الموارد وفاعليته. ولم يفرقوا بين مستثمري الموارد هذه، دولةً كانوا، أم أفراداً. فكان معيار التخطيط هو الحساب الإجمالي للمساعدات والاستثمارات المتوقعة. وعولوا على المساعدات والاستثمارات، وعلى حسابها الإجمالي، في الخروج من الفقر. وأغفلوا دور النظام المالي، وتكيفه المرن مع الطلب الفردي، واستجابته الطلب هذا، في تحقيق عوائد مرتفعة. وحمل انهيار التجارة الدولية في أثناء الكساد الكبير دارسي الاقتصاد على التشكيك في دور التجارة محركاً للنمو، فأوصوا بضرائب ثقيلة على تصدير المحاصيل الزراعية، مثل الكاكاو، وبنقلها الى باب التصنيع وتغذية صندوقه بها. وجزم راوول بريبيش بأولوية إنشاء صناعات تتولى صناعة السلع المستوردة، وبتأخير الصناعات التي تصنع سلعاً تصدر الى الخارج وتقوم بپ"جر"النمو، فترتب على"عقيدة"بريبيش بقاء معظم دول أميركا اللاتينية خارج الطفرة التجارية العالمية، غداة الحرب الثانية، وكانت ثمرتها النمو الكبير الذي عم بعض بلدان آسيا، الى دول أوروبا كلها تقريباً. وفي ثمانينات القرن الماضي، كان الفشل الذريع ثمرة تولي الحكومات إدارة الشركات الصناعية والمصارف، وسياساتها الحمائية. وتوجت الديون الأفريقية والأميركية اللاتينية أزمة البلدان النامية، ومراوحتها في الفقر. وفي الأثناء تقدمت بلدان شرق آسيا الى الصفوف الاقتصادية الأمامية، وحلت المراتب الأولى في الأسواق الحرة والحرية الفردية. ونجم عن هذا ثورة في اقتصاد التنمية ونظريته. وظهر افلاس الدعوة الى تنمية اقتصادية تصدر عن قمم الدولة والسلطة. واليوم، يهدد الانهيار الاقتصادي الجاري بالعودة الى الأيام الخالية وإرثها السام. فلا بد، في سبيل تفادي إحياء الأرث هذا، من التمسك بالمبادئ المختبرة والناجعة: وأولها تجنب الحمائية، ثم المحافظة على نظام مالي يمد الثورة من قاعدة الهرم باحتياجاتها، والمضي على تصفية ذيول البيروقراطية الاقتصادية، وأخيراً الإشاحة عن"استراتيجيات التنمية"التي يتولاها خبراء الهيئات الدولية ويكرهون البلدان عليها. فلا شيء في الانهيار الحالي يناقض المبادئ التي نهض عليها ازدهار عقود ما بعد الحرب. عن ويليام إسترلي أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك، "فورين بوليسي"الأميركية، 1 - 2 / 2009 نشر في العدد: 16735 ت.م: 2009-01-28 ص: 25 ط: الرياض