ديوان"كره الحب"الصادر حديثاً عن دار النهضة العربية في بيروت هو الديوان الثالث للشاعر المغربي طه عدنان، بعد"وليَ فيها عناكبُ أخرى"، و"بهواء كالزّجاج". لعل أول ما يلفت في ديوان"أكره الحب"هو أن صاحبه يمتلك وعياً ضدياً بامتياز، أبرز سماته هو أنه متوتر باستمرار لا يكف عن مساءلة نفسه وعلاقاته بالعالم، ويرى دوماً الأشياء بعين المفارقة، التي تبدو في هذا الديوان قرينة السخرية، وهي خيار المهزومين والعاجزين في عالم مشبع بالتناقضات أصبح فيه الإنسان مجرد ترس مستهلك في آلة. يغامر الشاعر في فعل الكتابة باعتبارها رهاناً أخيراً لمقاومة الاغتراب الروحي الذي أصبحنا نحياه جميعاً لأسباب كثيرة. وربما تزداد حال الاغتراب حدة مع وجود درجة عالية من الوعي بالذات، خصوصاً عند الشعراء الذين تدفعهم محنة الانفصال عن العالم وعدم القدرة على التواصل مع الآخرين إلى محاولة خلق عوالم بديلة ترضيهم، ربما لأن الانفصال عن العالم بذاته قادر على إثارة القلق، بل هو في الحقيقة مصدر كل قلق - كما رأى الفيلسوف وعالم النفس الألماني إريك فروم 1900-1980 مثلاً في كتابه الجميل"فن الحب"، ربما لأنه يعني ببساطة اليأس والعجز. ومع أن الحب بأشكاله المتعددة هو إحدى طرق مقاومة الاغتراب، فإن الشاعر يسخر منه، بدءاً من اتخاذه عنواناً يحمل دلالة مفارقة، وهو الأمر الذي يزداد كلما أنعمنا في قراءة الديوان فنكتشف علاقة الذات الشاعرة مثلاً بالكتابة التي تحتمي بها بصفتها حلماً يقاوم الفناء، وبالأصدقاء الذين يبدون في صور إرهابيين نبلاء، يشاركونه الضياع وقسوة المنفى والهجرة إلى بلاد باردة لا ترحم غرباءها، ثم يراهم في النهاية ينفرطون أمامه واحداً بعد الآخر، مثل أمادو ديالو الشاب الغيني الذي قُتل برصاص أربعة من رجال الأمن أمام منزله في حي البرونكس في نيويورك. و"نينو"الشاب الجزائري الذي يعيش هجرته السرّية في بروكسيل على ايقاع صعاليك الجاهلية بمنطقهم نفسه في الحياة وفن العيش، وغيره من الشخصيات التي يرسم لها الشاعر بورتريهات شعرية شديدة الرهافة. وعلى رغم أن الذات المغتربة عن نفسها وعن عالمها تفتش عن الحب بصوره المتعددة، فإنها لا تجده إلا في ظل واقع افتراضي جديد أصبحنا نعيشه بسبب الطفرة الإلكترونية الهائلة التي حصلت في السنوات الأخيرة. ولعل أبرز مميزات هذا الواقع التضاؤل الذي أخذت تعرفه أهمية المكان ليغدو الزمان هو كل شيء، وليحل الوجود الآني في الأمكنة المتعددة محل الأبعاد المكانية. فهناك مع"الانترنت"وعيونه التي لا تنام أبداً شبهة إيهام بالمشاركة والتواصل مع العالم، فتستطيع وأنت في غرفة نومك، وبكبسة إصبع، معرفة كل ما يدور في العالم من حولك، كما في إمكانك أيضاً أن تعشق وتكره وتناضل أو حتى تندد بالجرائم الأميركية والإسرائيلية. ويمكنك أيضاً عبر الإنترنت مثلاً أن تكوَّن علاقات صداقة وحب عابرة للقارات من دون القلوب. إلا أن الشاعر يرصد عبر الديوان سطحية هذه العلاقات وبرودها. فالتفاعل الإنساني فيها مفتقد إلى أبعد حد، ولحظات الحب الدافئة التي فقدت نداوتها حينما تحولت إلى لحظات حب أو عشق افتراضية لا يمكنها - بأية حال - أن تقطع العزلة الموحشة التي تهاجم الفرد الذي يجلس ? عادة - وحيداً في الظلام، أمام شاشة غبية وباردة تخبو وتضيء، بل على العكس ربما تزيده انفصالاً عن عالمه الحقيقي وتعمّق عزلته الروحية والجسدية أكثر. وقد يصل الأمر بها في بعض الأحيان إلى أن تُغيّب وعيه أو تزيفه بخداعها. وفي ظني أن غياب الحضور الجسدي للبشر في هذه العلاقات الافتراضية، هو أحد الاسباب المهمة وراء برودها وسطحيتها، ربما لأن الجسد هو الذي يمنح العلاقات الإنسانية كافة فاعليتها وصدقها ودفئها الخاص، وهو ما يطرحه الشاعر بقوة في عدد من القصائد مثل: القصيدة الكونية، الشّاشة عليكم، وئيداً أحفرُ في جليدٍ حيّ، أكرَه الحُبّ... فنجده يقول مثلاً في إحداها:"ضيعتني الانترنت/ بددت دفئي/ ولم أجن منها سوى الوحدة/ والقلق/ فأصدقائي تائهون/ في سوق المضاربات الغرامية/ منهمكون في كتابة الرسائل العابرة للقلوب والقارات". وأتصور أن الديوان، على رغم الحس الساخر الذي يطغى عليه، وتجاوزه فضاء الأشكال الشعرية الرومنطيقية السابقة، يجسد في العمق حالة من الحنين الى العلاقات الرومنطيقية الأولية بالأشياء والعالم والأمكنة، وبالشعر ذاته، والتي غُيبت في ظل هذا الواقع المشوّه الآلي الذي لم يعد جميلاً ولا مبهجاً بالمرة. ومن ثم فإن الذات داخل الديوان تتوق الى الحب باعتباره خلاصاً أخيراً لها، قادراً على اقتحام الجدران وقهر سجن العزلة الذي فرضَ عليها، ومن ثم تتمكن من القدرة على التواصل مع الآخرين:"يا رب، مالي والتكنولوجيا؟/ كنتُ فيما مضى/ أخطُّ أشجاني/ على صفحةٍ بيضاء مثل هذي/ ولم يطل قطُّ يدي العطب/ واليوم،/ ها زيتونة عمري تثكل أوراقها/ في الطريق إلى غابة الثلج.