كان من المفترض أن تتطابق صورة الواقع مع الحلم الجميل. هي لم تطلب أكثر من مجرد الارتباط بمن اختاره قلبها. عندما تعرّفت الى زياد"عضّت على جرح"الفرق الطائفي والطقوس الدينية التي تباعد بين عائلتيهما. زياد المسلم وكارول المسيحية قرّرا خوض المعركة معاً. في قرارة نفسيهما كانا يتمنيان أن يتنازل أحدهما للآخر. مارسا على مدى جولات متعددة، استمرت سنوات، ما يشبه"استدراج العروض"فحاول كل طرف أن يجذب"نصفه الآخر"الى ملعبه. اختلفت الوسائل والضغوط لكن الهدف واحد: تأمين بيئة منسجمة تنسحب لاحقاً على أسلوب تربية الاولاد. لكن جولات النقاش المنهكة انتهت بالتعادل السلبي، فكان الخيار النهائي اللجوء الى"آخر العلاج"... الزواج المدني. هنا بدأت مرحلة جديدة لا تقل قساوة عن"معركة"نزع العباءة الطائفية. فالقرار المشترك كلّفهما موقفاً معادياً من الأهل، والاستغناء عن لائحة طويلة من المدعوين الى حفلة الزفاف، وحصر التركيز بتحضيرات السفر الى قبرص لإتمام معاملات الزواج المدني. ولأن موازنة الشابين لا تتحمل تكاليف الارتباط في قبرص والاحتفال في لبنان، قرّر زياد وكارول الاكتفاء بأخذ صورة تذكارية أمام مقر المحكمة وبعض الأماكن السياحية بعد التوقيع على الأوراق الرسمية، وقضاء أسبوع كامل في الدولة التي أنقذت زواجهما. في ذلك اليوم ارتدت كارول فستاناً بسيطاً أبيض اللون، سرّحت شعرها بنفسها، ووضعت ماكياجاً خجولاً على وجهها الذي تملكه الحزن على رغم سعادتها بالارتباط أخيراً بزياد. لكن ما إن عاد العروسان الى بيروت حتى فتح باب النقاش مجدداً."في أي مدرسة نعلم الاولاد؟ في أي كتاب ديني سيقرأون؟ هل يذهبون الى الكنيسة أم الى المسجد؟ هذه المرة استفاد الزوجان من خبرتهما السابقة في"تشريح"القضايا المصيرية، فتجنّبا"المناورة"بهدف كسب الوقت واتخذا القرار بأن"تكون المدرسة علمانية، والأفضل أن يطّلع الولد على الديانتين، ويختار لاحقاً ما يناسبه بعد بلوغه سن الرشد". هذا القدر من الانفتاح، لا يجد مكاناً له في بعض منازل اللبنانيين. فالعديد من مشاريع الزواج المختلط سقطت عند عتبة الدين. وفي بعض الحالات يتحوّل الحب الجارف الى صداقة أو حتى جفاء عندما يكتشف أحد الشريكين"عاهة الطائفية"لدى شريكه، ولا يتردد في تصنيف نفسه ب"المخدوع". هذا الواقع لا يحجب واقعاً آخر أكثر إلحاحاً، وهو مطالبة فئات شبابية كثيرة ومنظمات المجتمع المدني وبعض الناشطين الحقوقيين باقرار إقتراح قانون الزواج المدني، لوضع حد لمعاناة صامتة لا يدرك قساوتها إلا من اكتوى بنارها. لكن المشروع كان يواجه غالباً برفض الطبقة السياسية والمرجعيات الدينية. لكن منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والأحزاب العلمانية لم تستسلم للأمر الواقع، فكلما أغلق باب بوجهها اطلت من شباك في مناسبات خجولة. النقاش الساخن حول"شرعية"الزواج المدني في لبنان ليس جديداً. ففي 1910 نشرت صحيفة"البرق"استفتاءً عن الزواج المختلط خارج إطار السلطات الدينية. وعام 1926 تحت الانتداب الفرنسي، صدر مشروع قرار عن المفوّض السامي يعطي المحاكم المدنية صلاحيات المقاضاة في قضايا الأحوال الشخصية، ما أثار حفيظة زعماء الطوائف اللبنانية. وأدى عرض مشروع قانون عن الأحوال الشخصية أعدّته نقابة المحامين عام 1951 الى إضراب من قبل النقابة دام أشهراً، انتهى بعرض المشروع على مجلس الوزراء ثم مجلس النواب ثم الى الأدراج... وفي 1974 وبعدها في 1977 أثارت الأحزاب العلمانية القضية من جديد لكن من دون جدوى ثم انشغل الجميع بالحرب الأهلية. وفي 1998 اعيد طرح الملف لكن هذه المرة من خلال مشروع قانون"إختياري"للزواج المدني عرض على التصويت في مجلس الوزراء، وحصد تأييد 21 وزيراً من أصل 27. لكن الألغام السياسية والطائفية انفجرت بوجهه مرة اخرى منعت وصوله الى مجلس النواب. وبعد سبات طويل، أعّدت"حركة حقوق الناس"عام 2002 صيغة قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية وقّع عليه عدد من النواب. ويستشهد المحامي والناشط في مجال حقوق الانسان الدكتور بول مرقص، بالكاتب أمين معلوف الذي قال:"أحترم من يتزوج في إطار ديني، كما أحترم من يختار أن يتزوج في إطار مدني. الشيء الوحيد المرفوض هو حرمان المواطن من حق الإختيار، لأن ذلك يحرمه من حقوقه كمواطن وكإنسان". وقال مرقص:"هذا أبلغ تعبير سيق في الزواج المدني الذي ينسجم، مع مقدمة الدستور والتزام لبنان المواثيق الدولية الضامنة حرية المعتقد والزواج". واللافت أن القانون اللبناني يسجل عقود الزواج المدني المبرمة خارج الأراضي اللبنانية، فيكون نافذ المفاعيل ويسجّل في دوائر الأحوال الشخصية من دون إخضاعه لأي معاملة دينية بل للإجراءات العادية ولقانون الدولة حيث عقد الزواج، ويخضع الطلاق والميراث ووضع الأولاد الى قانون البلد حيث أبرم عقد الزواج. وللمفارقة، فإن عدداً من السياسيين الذين وقفوا بوجه قانون الزواج المدني هم من المتزوجين مدنياًً ومن خارج طوائفهم! نشر في العدد: 16733 ت.م: 2009-01-26 ص: 25 ط: الرياض