شهدت مدينة غزة ليلة غير مسبوقة منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع والعشرين من الشهر الماضي، لناحية عنف القصف الذي شاركت فيه مجتمعة الطائرات النفاثة من طراز"اف 16"والمروحيات المقاتلة من نوع"اباتشي"وطائرات الاستطلاع من دون طيّار، والمدفعية، والزوارق الحربية. وبدا أن قوات الاحتلال تسعى إلى إحكام الطوق على المدينة، تمهيداً لاجتياحها بعد توغل في عمقها أمس استمر ساعات. ولوضع مدينة غزة بين فكّي"كماشة"، أجرت قوات الاحتلال ما يمكن وصفه بأنه"بروفات"لاجتياح المدينة وحصر سكانها مع المقاتلين الفلسطينيين في وسط المدينة، وهو الأمر الذي تعمل في شكل حثيث على إتمامه منذ بضعة أيام، من خلال الضغط العسكري والقصف المكثف من ناحية، ومن خلال حرب إعلامية ونفسية متزامنة من جهة أخرى، من خلال إلقاء عشرات آلاف المناشير يومياً من الطائرات لحض السكان على مغادرة أطراف المدينة إلى وسطها. وأجرت قوات الاحتلال ثلاث"بروفات"لتطويق مدينة غزة من ثلاثة اتجاهات توغلت منها، وهي الجهة الشمالية الغربية من محور منطقة التوام، وحي الشيخ عجلين جنوب غربي المدينة، ومن حي التفاح شرقها ومنطقة عزبة عبد ربه شرق مخيم جباليا. ودارت اشتباكات عنيفة على تلك المحاور الثلاثة استخدم خلالها المقاتلون الفلسطينيون امكاناتهم البسيطة من الرشاشات والقذائف والعبوات الناسفة في صد قوات الاحتلال التي انسحبت مع شروق شمس أمس، بعد نحو ست ساعات من الاشتباكات التي تعتبر الأعنف منذ بدء الحرب على القطاع، فيما استخدمت قوات الاحتلال بكثافة لافتة قنابل الفوسفور الأبيض، والأسلحة المحرمة دولياً التي أدت إلى اشتعال النار في عدد من المنازل والمواطنين الذين استشهد منهم بسببها 24. ولم تغمض عيون الفلسطينيين في المدينة، وحبسوا أنفاسهم وهم يسترقون السمع من وراء أبواب ونوافذ محطمة الزجاج، وينامون في المطابخ أو في غرف بعيدة عن مصادر النيران. ولم يكن نهار أمس السادس عشر للحرب على غزة أفضل حالاً من ساعات الليل الطويلة التي امتدت فيه المعركة العنيفة من الواحدة فجراً حتى السابعة صباحاً. وبعد ساعات قليلة من قصف متقطع نهار أمس، استعرت الحرب وتركزت على قلب حيي التفاح شرق مدينة غزة والزيتون جنوبها، وشرق مخيم جباليا للاجئين، وهي المناطق التي قصفتها الدبابات والمدفعية بغزارة غير مسبوقة، ما أوقع مزيداً من الشهداء، ليقفز العدد بسرعة إلى نحو 880 منذ بدء الحرب. وطاول القصف العنيف عمق هذه المناطق بغية تهجير السكان منها الى وسط المدينة. واضطر عشرات آلاف الفلسطينيين إلى النزوح من منازلهم، منهم نحو 25 ألفاً لجأوا إلى مراكز ايواء أقامتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"أونروا"في عدد من مدارسها، فيما لجأ عشرات الآلاف إلى أقاربهم في مناطق متفرقة من القطاع. ميدانياً، ارتفع عدد شهداء الحرب الاسرائيلية المفتوحة على القطاع إلى نحو 30 شهيداً، بخلاف عشرات الجرحى، كان آخرهم مساء أمس عندما قصفت قوات الاحتلال منزل قيادي في"ألوية الناصر صلاح الدين"، الذراع العسكرية ل"لجان المقاومة الشعبية"، ما أدى إلى استشهاد والدته، وإصابة عدد من أفراد أسرته بجروح متفاوتة. وسبق ذلك سقوط شهيد وجرح نحو 80 في قصف مدفعي استهدف بلدتي خزاعة وعبسان شرق مدينة خان يونس. وأفادت مصادر طبية في مستشفى ناصر في مدينة خان يونس أن المستشفى يعج بالجرحى من الأطفال والنساء إثر قصف مدفعية الاحتلال مساكن المواطنين في خزاعة وعبسان شرق المدينة. ووجه المستشفى نداء استغاثة إلى منظمة الصحة العالمية لإرسال أطباء متخصصين في الحروق وحالات الاختناق الناجمة عن إطلاق القنابل الفسفورية والحارقة. وأشارت إلى أنها استقبلت منذ فجر أمس أربعة شهداء ونحو 100 مصاب. وقالت مصادر محلية ل"الحياة"إن قوات الاحتلال أطلقت مع ساعات الفجر قنابل فسفورية على منازل في البلدتين، ما أدى الى استشهاد عدد من المواطنين وإصابة عشرات آخرين، واشتعال النار في عدد من المنازل. واستشهد مواطن وأصيب عشرة آخرون في قصف مدفعي استهدف منازل في حي الجرن الصغير في قلب مخيم جباليا الذي نزح مئات من سكانه. كما استشهد مواطنان في غارة على بلدة عبسان شرق مدينة خان يونس، بينهما فتى في الخامسة عشرة. وأفادت مصادر طبية في مستشفى كمال عدوان في بلدة بيت لاهيا شمال القطاع أن اثنين من بين الجرحى في وضع خطير. كما أصيب ثلاثة مواطنين عصراً بجروح جراء استهداف طائرات حربية اسرائيلية سيارة مدنية في حي ماضي عند مدخل مخيم الشابورة للاجئين المزدحم بنحو 45 ألف لاجئ في مدينة رفح. وأوضح شهود ل"الحياة"أن من كانوا داخل السيارة نجوا من القصف، فيما أصيب ثلاثة من المارة بجروح. واستشهد معد البرامج في تلفزيون فلسطين جلال نشوان 52 عاماً من بلدة بيت حانون أمس برصاص قوات الاحتلال شمال القطاع. واستشهدت ثلاث سيدات وطفلة، واصيب عدد آخر بجروح في غارات على بلدة بيت لاهيا، استهدفت منازل عائلتين. واستشهد فجر أمس أربعة من عائلة واحدة في منطقة الكرامة شمال غربي مدينة غزة اثناء تنفيذ قوات الاحتلال"بروفتها"للتقدم من الشمال الغربي لمدينة غزة إلى المناطق الكثيفة بالسكان في أبراج المقوسي ومخيم الشاطئ للاجئين وحيي النصر والشيخ رضوان، وكلها شمال المدينة. ووجه مواطنون نداءات استغاثة لإنقاذ الجرحى قبل استشهادهم عبر"إذاعة الشعب"المحلية التي ظل ثلاثة من الصحافيين العاملين فيها يبثون رسائل على الهواء مباشرة ويحذرون المواطنين من الاقتراب من مناطق القصف العنيف والاشتباكات. واستشهد جرحى في هذه المناطق متأثرين بجروحهم، نظراً إلى عدم قدرة سيارات الإسعاف على الوصول الى منطقة أبراج الكرامة بسبب القصف الاسرائيلي العنيف، وإطلاقها القنابل الفسفورية التي كانت تشاهد تنفجر وتشتعل في سماء المنطقة من أحياء بعيدة في مدينة غزة. وعلى أثير الاذاعة، وجه مصاب نداء استغاثة لطلب سيارة إسعاف من مستشفى القدس القريب من منزله في حي تل الهوا الذي سقطت فيه قذائف دبابات الاحتلال. وقال الشاب وهو يبكي إنه أصيب بجروح هو ووالدته وعدد من أفراد اسرته، وإنهم ينزفون من دون مجيب. واستشهد فتى في السادسة عشرة وأصيب ثلاثة من أشقائه بعد تعرض منزلهم لقصف جوي في بلدة بني سهيلا شرق خان يونس جنوب القطاع. وأطلقت المدفعية الإسرائيلية قذائفها تجاه تجمع للمواطنين في بلدة القرارة شمال شرقي خان يونس، ما أسفر عن استشهاد شاب، وإصابة 7 آخرين، أحدهم في حال موت سريري. من جهتها، أعلنت"سرايا القدس"، الذراع العسكرية لحركة"الجهاد الإسلامي"، استشهاد اثنين من مقاوميها في اشتباكات عنيفة شرق بلدة جباليا. كما شنت طائرات الاحتلال عشرات الغارات الجوية على منازل وأهداف مدنية، اضافة الى إطلاق مئات قذائف المدفعية، والبحرية الإسرائيلية. وقصفت طائرات الاحتلال منزل نائب القائد العام ل"كتائب القسام"، الذراع العسكرية لحركة"حماس"، في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، ما أدى إلى تدميره، واشتعال النار في منازل المواطنين المجاورة. وواصلت فصائل المقاومة إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية والمستوطنات المحيطة بالقطاع، رغم استمرار الحرب والتحليق المتواصل لطائرات الاستطلاع من دون طيار التي تلتقط صوراً على مدار الساعة لكل شيء يتحرك على أرض القطاع. وسقط اكثر من 25 صاروخاً على مدن وبلدات اسرائيلية، بينها أسدود وبئر السبع التي سقط فيها عدد من الصواريخ من نوع"غراد". كما أطلقت"كتائب القسام"صاروخاً على قاعدة"بلماخيم"الجوية الأكبر في وسط إسرائيل وتبعد عن القطاع نحو 50 كيلومتراً. واعترفت اسرائيل بسقوط صاروخي"غراد"على بئر السبع، حيث وقعت أضرار نتيجة إصابة أحد الصواريخ عامود كهرباء، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن بعض احياء المدينة. وسقط الصاروخ الآخر على سيارة كانت تقف على طرف الشارع. واعترفت اسرائيل بسقوط صاروخ على بلدة"نتيفوت"وقع في منطقة مفتوحة، وآخر على"عسقلان"، وخمسة على"اشكول"، وصاروخ على"سديروت"سقط في حديقة منزل أدى إلى وقوع اضرار مادية. إلى ذلك، قال الناطق باسم"أونروا"عدنان أبو حسنة أمس إن 25 ألف فلسطيني يحتمون في مدارس تابعة للمنظمة الدولية بسبب تدمير منازلهم في الهجمات الإسرائيلية المتواصلة للأسبوع الثالث على التوالي. وأضاف أن أكثر من 25 ألف فلسطيني موجودون حتى مساء السبت في مدارس تابعة ل"أونروا"في القطاع"للاحتماء من القصف الإسرائيلي. وفي كل ساعة تفد أعداد جديدة". وأوضح أن"أونروا تقدم أغطية ومعلبات غذائية ومياه شرب، لكن هناك نقصاً نحاول سده". وأضاف:"اضطررنا في الساعات الماضية إلى فتح أربع مدارس جديدة، نظراً إلى تزايد أعداد الفلسطينيين الذين يفرون من مناطق القتال"، معتبراً أن"الحل الوحيد يكمن في الوقف الفوري للقتال والاستجابة لقرار مجلس الأمن الدولي وفتح المعابر في صورة شاملة ومتواصلة". وكان رئيس المكتب السياسي لحركة"حماس"خالد مشعل اعتبر أن إسرائيل هي المطالبة بتنفيذ القرار الدولي، مؤكداً أن قوات الاحتلال فشلت فشلاً ذريعاً في المواجهات الميدانية مع المقاتلين الفلسطينيين. وجدد رفض"حماس"أي تهدئة جديدة في القطاع وأي انتشار لقوات دولية فيه. وقال في كلمة متلفزة من دمشق:"نطالب أولاً بوقف العدوان فوراً، وثانياً بالانسحاب الفوري لقوات العدو من غزة، وثالثاً برفع الحصار عن شعبنا، ورابعاً بفتح المعابر جميعها". واتهم الولاياتالمتحدة بأنها أعاقت أولاً صدور القرار"لكن حين صمد شعبنا وصمدت المقاومة وحين انكشف حجم هذه المجازر وحين رأت الولاياتالمتحدة انتفاضة الأمة سمحت بتمرير القرار الدولي وأقرت بهذا القرار بسبب صمودنا". وقال إن مقاتلي"حماس"تمكنوا من تحقيق"مفاجآت"ميدانية في مواجهة الجيش الاسرائيلي. وأضاف أن"المقاومة بخير وستظل بخير وستنتصر بإذن الله، هي التي فاجأت العدو واستوعبت ضربته ثم تسلمت زمام المبادرة وتقدم كل يوم المفاجآت". وشدد على أن"الاحتلال الإسرائيلي لم يحقق شيئاً من أهدافه على مدار 15 يوماً... واستطيع القول بكل ثقة ومن واقع الميدان على الصعيد العسكري إن العدو فشل فشلاً ذريعاً ولم يحقق شيئاً. لكنه نجح في شيء آخر، نجح نجاحاً مخزياً في جرائمه بحق أطفالنا ونجح في أنه صنع محرقة على أرض غزة... لقد مرت خمسة عشر يوماً على الحرب السابعة، نعم هي الحرب الصهيونية السابعة على غزة، على فلسطين، على أمتنا، يريدون فيها إخضاعنا، تريد إسرائيل أن تفرض علينا شروط الهزيمة". واعتبر أن"العدو وضع لنفسه أهدافاً، لكن هذه الأهداف بدأت تتآكل مع مرور الوقت. وكي يغطي على خسائره فإنه يتكتم ويمنع الإعلام من دخول غزة ويغطي الخسائر بحديثه عن نيران صديقة وغير ذلك"، مؤكداً أن"لحظة الحقيقة ستأتي". وأكد"أننا لن نقبل تهدئة ثانية لأن ذلك تعطيل للمقاومة... ولن نقبل قوات دولية لأنها ستأتي لحماية أمن إسرائيل، ونحن نعتبر أي قوات دولية قوات احتلال". وجدد رفضه أي مفاوضات مع إسرائيل، معتبراً أن"كل البلاء وقع في فترة المفاوضات خصوصاً ان الحرب فرضت علينا ونحن لم نختر الحرب". وكرر أن"المقاومة هي التي تحرر وتنتصر هي التي تحمي وليس العكس"، رافضاً"مخاوف البعض من أن تضعف المقاومة بعد كل هذه التضحيات". وبعدما شكر"كل الدول التي ساعدتنا"، طالب العرب ب"أن يقفوا معنا في محاكمة قادة العدو على ما ارتكبوه من مجازر وأن لا يستقبلوا أي مسؤول إسرائيلي في عاصمة عربية، وانما أن يتعاونوا مع شارعهم في محاكمة هؤلاء القتلة". ودعا"الدول العربية التي لها علاقات مع إسرائيل إلى أن تتشجع الآن لاستخدام هذه الورقة. وليقولوا لقادة العدو ان يوقفوا النار فوراً"في غزة. وأكد أن"معركة غزة لها ما بعدها"، وخاطب القادة العرب:"رتبوا مواقفكم على ذلك، قفوا مع المنتصرين ولا تتفرجوا على ما يجري". نشر في العدد: 16719 ت.م: 12-01-2009 ص: 11 ط: الرياض