عرّفت الصحافي الفرنسي الآتي لتوّه الى لبنان على ثلاثة "دكاترة" أصدقاء كانوا في المقهى الذي قصدناه. وعلى جاري العادة في لبنان قدّمتهم بصفتهم"دكاترة"فقط. لكنّ الصحافي الذي يزور لبنان لإجراء تحقيق عن بيروت التي اختيرت عاصمة عالمية للكتاب للسنة 2009، انتهز الفرصة ليسألهم عن أحوال الطب في هذا البلد"المضطرب"كما عبّر، وفي ظنه أنهم أطباء. أصيب الثلاثة بحيرة جعلتني أتدخل بسرعة، موضحاً له أنهم"دكاترة"جامعيون وليسوا أطباء كما تعني هذه الصفة في فرنسا. وأفضت في الإيضاح قائلاً له إن اثنين منهم يحملان شهادة دكتوراه في الأدب والثالث في التاريخ. وعندما غادر"الدكاترة"الثلاثة سألني مدهوشاً: لمَ تطلقون عليهم هذا اللقب ما داموا ليسوا أطباء؟ فرحت أشرح له كيف أننا نسمّي الأساتذة الجامعيين"دكاترة"داخل الجامعة كما خارجها، وكيف أن هذا اللقب ليس وقفاً عندنا على المفهوم الأكاديمي بل هو شائع في الحياة اليومية وفي الإعلام وسواهما. لم يستوعب الصحافي الفرنسي الأمر جيداً وقال لي إن الفرنسيين يترددون حتى في إطلاق هذا اللقب على الطبيب نفسه مؤثرين تسميته"طبيباً". أما الأساتذة الجامعيون فهم لا يُسمّون"دكاترة"إلا داخل الحرم الجامعي وفي معظم الأحيان يسمّيهم طلابهم وزملاؤهم"أساتذة"فقط. لم أستطع أن أوضح لهذا الصحافي الذي لم أسأله إنْ كان"دكتوراً"، هذا الالتباس أو لأقل هذه العادة التي درجنا عليها في لبنان والعالم العربي. ولم أقل له إن بعض هؤلاء قد يغتاظون إن لم يُسموا"دكاترة"أينما حلوا، وإنّهم ينظرون شزراً الى مَن لا يناديهم بهذا"اللقب"الذي حصلوا عليه بعد جهد جهيد. هذه الظاهرة التي"استغربها"الصحافي الفرنسي تستحق الوقوف عندها وإن لم تعدُ كونها ظاهرة ثانوية أو هامشية. فالقضية، قضية"الدكترة"أبعد من أن تُحدّ في حمل اللقب، وقد تحتاج في عالمنا العربي الى مراجعة تشمل المفهوم الأكاديمي وما يعاني من تقهقر وتراجع. وهذا شأن الأكاديميين أنفسهم وأقصد أولئك الذين يستحقون هذا اللقب عن جدارة، وقد أصبحوا قلّة على رغم"انهمار"شهادات الدكتوراه بغزارة. قد تعبّر هذه الظاهرة التي لن أصفها ب"المرضية"عن نزعة لدينا نحن العرب، نحو"المظهر"أو"القشور"كما يقال شعبياً. فاللقب الذي يمثل رتبة أكاديمية أصبح بمثابة وسام شرف يعلّقه أصحابه على صدورهم ليبصره الآخرون على اختلاف مرتباتهم. إنها ثقافة"المظهر"تطغى على ثقافة"الجوهر"بل ثقافة"القشور"تهيمن على ثقافة"النواة". إذا كان شخص ما يحمل شهادة"دكتوراه"فهو يحملها لنفسه، أما الآخرون فهم غير معنيين بها ولا مجبرين على مناداته بهذا اللقب الأكاديمي، ويمكن هنا استثناء طلابه في الجامعة. ليس هؤلاء"الآخرون"أو المواطنون ملزمين بإطلاق هذه الصفة على"دكاترة"ليسوا بالأطباء. ولا يهمّهم أيضاً إن كان الدكتور الفلاني يحمل شهادة في الأدب أو التاريخ وسواهما. روي مرّة عن"دكتور"كان يلح على أفراد عائلته وعلى الجيران أن ينادوه بهذا اللقب. لنتصوّر شخصاً تناديه زوجته بپ"الدكتور"أو أمه أو ابنته! واللافت أن شعراء وروائيين كثراً يؤثرون لقب"الدكترة"على صفتهم الأخرى. وأذكر مرة كيف عنونت إحدى المجلات مقالاً عن الشاعر خليل حاوي واصفة إياه ب"البنّاء الذي أصبح دكتوراً"وكأن هذا اللقب أهم من صفة الشاعر، وكان هو عمل في مهنة البناء قبل أن ينتقل الى عالم الشعر. بعض"الدكاترة"الذين يتمسكون بهذا اللقب قد يسعون الى إخفاء"ضعف"ما أو خلل وراءه أو اصطناع سلطة ما. وبعض"الدكاترة"لا يتورّعون عن توقيع أسمائهم مسبوقة بحرف الدال د. سواء في الصحف أم في البيانات والرسائل والفواتير... في نظرهم أن حرف الدال هذا مدعاة للوقار والاحترام إن لم يكن للتباهي أو الفخر. وكم من مقالات حملت تواقيع مسبوقة بپ"د."كانت غير جديرة في أن تنشر لركاكتها وخوائها. لكن هذا الأمر لا يشمل كل أصحاب لقب"الدكتوراه"، فبينهم كثيرون نتعلّم منهم ونقرأهم كأساتذة فعلاً. وقد عمد بعضهم الى التخلّص من هذا اللقب بعد أن أصابه ما أصابه من عيوب وعثرات جعلته مثاراً للسخرية في أحيان. ما من كاتب أو مفكر أو ناقد في الغرب يعرّف عن نفسه بأنه"دكتور". اللقب هذا يرد فقط في السيرة الذاتية أو براءة الشهادة التي ينالها الطالب حين ينهي دراسته. حتى عندما يكتب هؤلاء في الصحف أو يطلون على الشاشات الصغيرة لا يُعرّف عنهم بأنهم"دكاترة"مع أن بعضهم يحمل أكثر من شهادة دكتوراه. رولان بارت لم يوقّع يوماً نصاً باسمه مسبوقاً ب"د."وكذلك ميشال فوكو أو إدغار موران أو إدوارد سعيد... حتى صموئيل هنتنغتون صاحب مقولة"صدام الحضارات"أو فوكوياما المفكر الشهير الذي قال بپ"نهاية التاريخ"... والأسماء الأخرى لا تحصى. هذا اللقب في الغرب هو لقب أكاديمي ولا يخرج من الصرح الجامعي ليصبح لقباً عاماً يمكن التباهي به والاحتماء وراءه. هذه الظاهرة التي تشغل حياتنا الثقافية في العالم العربي تعبر عن أزمة عميقة هي أزمة التعليم الجامعي الذي يتراجع ويتضاءل، بل عن أزمة الروح الأكاديمي أو العقل الأكاديمي الذي بات عرضة لرياح عاتية تهبّ من القفار التي تحيط بنا. أما الألقاب والمقامات فليست إلا"قشوراً"يحلو التلهي بها ما دام الزمن سانحاً للتلهي. لم يستوعب الصحافي الفرنسي هذه الظاهرة التي عدّها نوعاً من المزاح، لكنني استوعبت حيرته كثيراً وأدركت لماذا ظن أن الأمر لا يعدو كونه مزاحاً.