في السنوات الأخيرة لاحظت أن معظم أصدقائي - بسم الله ماشاء الله - أصبحوا دكاترة.. وأكاد أجزم أنكم أيضا لاحظتم انتشار ظاهرة الدكترة في مجتمعنا المحلي وتحولها لمنزلة اجتماعية - بدليل عدم سؤالنا أصلا: "سعادتك دكتوراه في إييش؟".. وفي المقابل يعد هذا اللقب عزيزا في الدول المتقدمة ولا يحمله كثير من حملة نوبل والمشرفين على أبحاث الدكتوراه فيها (وسأخبرك لماذا لاحقا).. وشعبية هذا اللقب لدينا أصبحت تسبب لي حرجا شخصيا - ليس لأنني لا أحمله - بل لأنني أضطر لنفيه دائما.. وحتى في المنزل كثيرا ما أتلقى اتصالات يبدأها المتحدث بقوله "ألوو؛ ممكن أكلم الدكتور فهد؟" فأجيب: "معك فهد حاف"، فيقول "أوووه أنا آسف"، فأشعر أنني خيبت أمله فأقول: "لا تأسف عزيزي فقد قرأت أكثرمن أي دكتور"، ولكن نبرة الأسى تستمر في صوته فأضيف: "وكتبت أيضا أكثر منهم" فيشعر بأسى أكبر ويبادر بتعزيتي "لا بأس لابأس يا أستاذ فهد حصل خير" وحين أسمع كلمة أستاذ (التي أدعوها لقب من لا لقب له) أشعر بالإحباط وأقول لنفسي "ياليتنى صمت منذ البداية" !! ... ومن أسباب ارتباكنا عموما حيال لقب دكتور - واكتفائنا بحرف الدال دون سؤال - غموض اللقب ذاته وتداخله بين عدة تخصصات ومستويات وثقافات تفسره بطرق مختلفة؛ فكلمة دكتور يتقاسمها غالبا ثلاث فئات من الناس: أكاديميون، وأطباء، وخبراء أو مبدعون يُمنحون دكتوراه فخرية أوHonorary doctoratesتقديرا لخبرتهم أو تفانيهم في خدمة تخصص معين دون المرور بدرجاته الأكاديمية. أما من الناحية التاريخية؛ فتعود كلمة دكتور الى اللغة اللاتينية وتعني (معلم) وكانت في العصور الوسطى تطلق على أكبر القساوسة والحاخامات سنا ومنزلة.. وحين بدأ عصر النهضة ظهرت جامعة بولونيا في ايطاليا (كأول جامعة رسمية في أوروبا)، واستعارت لقب دكتور لمنحه لأعلى الدرجات فيها. وهذا التصنيف - الذي اقتبسته لاحقا بقية الجامعات - يعني ترتيبا رأسيا/ وليس أفقيا/ بحيث يمكن لأحدهم نيل عدة تخصصات دون الوصول لدرجة "الدكتوراه" في أي منها.. كما يفسر كيف يمكن لأحد المتخصصين في الجامعات الغربية الاشراف على أبحاث الدكتوراه دون أن يكون هو ذاته "دكتورا" - ولماذا لم يحرص عباقرة مثل أنشتاين وجاليليو ونيوتن على الحصول كون العبرة في الانتاج العلمي، وليس في حمل الدرجة ذاتها!! ... أما من الناحية الجغرافية فتوجد اختلافات فرعية يجب على كل "دكتور" الانتباه إليها فعلا.. فهذا اللقب يطلق في استراليا مثلا على أطباء الأسنان بالذات، ويشير في ألمانيا إلى أعلى درجة في تخصص "الفلسفة"، في حين لا يُعترف به رسميا في هولندا واليابان (حيث الطبيب يدعى مُعالجاً، والأكاديمي بروفسورا) ويُعترف به رسميا كدرجة أكاديمية وليس طبية في السعودية والدول الناطقة بالانجليزية (فزوجتي مثلا تحمل في جوازها مسمى طبيب أو Physician وليس مسمى دكتور Doctor). أما الطريف فعلا فهو مايحدث في هنجاريا حيث يدخل اللقب ضمن الاسم الرسمي للعائلة، وتستمر بحمله الأجيال التالية (وبالتالي يمكن أن تقابل جرسونا أو سائق حافلة يدعى ديمتري الدكتور)!! وعدم الاتفاق على هذا اللقب - وتحديد معناه الدقيق - هو ما دعا وزراء التعليم في أوروبا للاجتماع عام 1999 للاتفاق على تعريف رسمي مشترك يسهل على المؤسسات الأكاديمية التعامل معه.. والجميل ان هذا الاجتماع تم في جامعة بولونيا كونها تتحمل مسؤولية وضعه لأول مرة وتم بفضله تنظيم أسس منح هذا اللقب في الاتحاد الأوروبي (وأصبح يعرف حاليا باسم إعلان بولونيا أوBologna declaration)! .. والآن.. بعد كل هذا الشرح؛ هل نتوصل نحن لاتفاق حول ظاهرة الدكترة في مجتمعنا المحلي، وانتشارها بنسبة تفوق المجتمعات الغربية!؟ هل فكرنا في مفارقة تخلي القساوسة والحاخامات عن اللقب في أوروبا، وتبنيه من قبل المشائخ والفقهاء في العالم الإسلامي؟ هل تساءلنا لماذا يصر مجتمعنا على "دكترت" كل مثقف وكاتب ومفكر دون سؤال أو اهتمام بإنتاجهم العلمي ورصيدهم المعرفي؟ .. من أجل هذا كله أيها السادة أقترح تنظيم اجتماعا مماثلا لجامعة بولونيا في جامعة الملك سعود.